عرض الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية
مسلك علم الاجتماع
كلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس
إعداد الطلبة الباحثين:
عبد العالي الصغيري Abdelaali sghiri
عبد الرحمن الســـيد Abderrahmane essaied
محمـد ساســـــــــــي Mohammed sassi
تحت إشراف :ذة. زبيدة أشهبون
محاور العرض:
تقديم:
الفصل الأول : الانتروبولوجية الثقافية: قدمه:عبد العالي الصغيري
v 1-ماهية الثقافة داخل الانتروبولوجية
v 2-مفهوم الانتروبولوجيا الثقافية و ماهيتها.
v 3- فروع الانتروبولوجية الثقافية.
v 4-نشأة الانتروبولوجية الثقافية وفتراتها التكوينية ( مراحلها)
v 5-علاقة الانتروبولوجية الثقافية بالانتروبولوجية الاجتماعية.
الفصل الثاني : الانتروبولوجية الاجتماعية: قدمه: عبد الرحمن الســــــــيد
Ø 1-مفهوم الانتروبولوجية الاجتماعية .
Ø 2-أسباب ظهور الانتروبولوجية الاجتماعية
Ø 3-نشأة الانتروبولوجية الاجتماعية
Ø 4-مراحلها التكوينية و أهدافها.
الفصل الأخير: الاتجاهات المعا صرة في الدراسات الانتروبولوجية: قدمه: محمد ســــــــــــاســــــي
o 1-الاتجاه التاريخي :
§ أ-الاتجاه التاريخي التجزيئي
§ ب-الاتجاه التاريخي النفسي
o 2-الاتجاه البنائي الوظيفي :
خاتمة
قائمة المراجع
تقديم:
إن اصطلاح الانتروبولوجية اصطلاح شامل وواسع يشمل دراسة التطور البيولوجي و الحضاري للانسان, العلاقات التي تحكم علاقات الشعوب بعضها ببعض.و الانتروبولوجيا كعلم , تنقسم الى قسمين: الانتروبولوجية الفزيقية أو البيولوجية و الانتروبولوجية الاجتماعية و الثقافية.
تهتم الانتروبولوجية الفزيقية بدراسة تطور الانسان وسلوكه . وكذلك الخصائص البيولوجية التي يتباين فيها البشر القدامى و المحدثين،اما الانتروبولوجية الاجتماعية والثقافية ،تهتم بدراسة المجتمعات و الثقافات الكثيرة المتنوعة التي تسير عليها المجتمعات، وقد اختصت و عرف عليها انها تهتم بدراسة المجتمعات البدائية.
الانتروبولوجية عامة تجتمع في علم واحد و تحت اسم واحد بين نظرتي كل من العلوم البيولوجية و العلوم الاجتماعية ، فتركز مشكلاتها من ناحية على الانسان ككائن بيولوجي و على سلوك الانسان ككائن اجتماعي.
ولقد أسس العقل الانتروبولوجي الحديث داته بارجاع الانسان الى الطبيعة من جهة ، واثبات حريته و استقلاله من جهة اخرى، وما يهمنا هنا هو هدا الاخير الدي استمد اسسه ومقوماته مع تطور البحوث في مجال التاريخ التقني و الثقافي للانسان،مقارنة بتاريخه الطبيعي من منظور فكرة التقدم و التطور الحضاري للبشر، وعلى العموم فقد ارتبط تكون العقل الانتروبولوجي الحديث بالوعي بالتقدم في مجال الثقافة البشرية، عززته نزعة تطورية موضوعها التاريخ الطبيعي للجنس البشري وتاريخه الثقافي و الاجتماعي . هدا فضلا عن اعتبار الثقافة و التقنيات و المؤسسات التي يقيمها البشر طوال تاريخهم ، ما هي الا وسائل للتكيف مع البيئة الطبيعية لاجل حفظ البقاء و التطور وضمان استمرار النوع البشري.
الفصل الأول: الانتروبولوجية الثقافية
تهتم الانتروبولوجية الاجتماعية و الثقافية بنظام الثقافة العام الذي يؤطر حياة مجموعة بشرية معينة، علما أن الثقافة تعني "مجموع الأنظمة الاجتماعية و الاقتصادية و أنظمة التربية و السلطة و أنظمة التبادل و اللغة و الفنون و القيم و المعايير القانونية و الدينية السائدة فيها، و قد تفرعت مباحث الانتروبولوجية الثقافية و الاجتماعية في أواسط القرن 20،الى فروع متخصصة ،كل فرع يهتم بجانب من جوانب الثقافة الاجتماعية ،كالدين أو ظواهر الصحة و المرض أو الظواهر الجنسية...وظهرت على الساحة الأكاديمية تخصصات تحمل اسم انتروبولوجيا ، لكنها تتنوع بتنوع موضوعاتها.
1-ماهية الثقافة داخل الانتروبولوجيا:
يتفق علماء الانثروبولوجيا الثقافية على أن الثقافة هي موضوع علمهم، ولكنهم يختلفون في تعريفها، ولم يظهر هذا الاختلاف في العقود القليلة السابقة حيث في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كان هناك شبه اتفاق على الأخذ بالتعريف الشهير الذي وضعه "تايلور Tylor" في كتابه «الثقافة البدائية» الذي يقول فيه: «الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعادات وغيرها من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع». وقد تبنى الأنثروبولوجيين هذا التعريف لعقود عدة إلى أن جاء التعريف الذي توصل إليه كل من "كروبر Kroeber" و"كلاك هون Kluckohn" من تفحصهما لما يزيد عن مائة تعريف من التعريفات التي قدمها الأنثروبولوجيين للثقافة ولم يجدا من بينها تعريفا مقبولا، إذ وجه القصير في الكثير منها يكمن في كون هذه التعريفات لا تميز بوضوح بين المفهوم والأشياء التي يشير إليها. ومن ذلك حدد الأمريكيان "كلاك هون" و"كروبر" تعريفا للثقافة حيث يقول "كلاك هون": «... نقصد بالثقافة جميع مخططات الحياة التي تكونت على مدى التاريخ، بما في ذلك المخططات الضمنية والصريحة، والعقلية واللاعقلية، وهي موجودة في أي وقت كموجهات لسلوك الناس عند الحاجة». وقد لقي هذا التعريف قبولا لدى علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في أمريكا حيث انطلق من هذا التعريف كل من "بيلز Beals" و"هويجر Hoijer" في تعريفهما للثقافة بأنها: «تجريد مأخوذ من السلوك الإنساني الملاحظ حسيا ولكنها ليست هي ذلك السلوك»، ويقولان في كتاب صدر لهما عام 1953م «مدخل إلى الأنثروبولوجيا» أنه: «لا يستطيع الأنثروبولوجي أن يلاحظ الثقافة مباشرة» ويؤيد هذا التعريف عالم الأنثروبولوجيا الاجتماعية "راد كليف براون Radcliffe Brouon" بقوله: «لا تعبر الثقافة عن أي شيء واقعي محسوس وإنما عن تجريد، وغالبا ما يستخدم كتجريد غامض» ومن ذلك يتضح أن هذه التعريفات تصب اتجاهين: اتجاه واقعي يرى أن الثقافة هي كل يتكون من أشكال السلوك المكتسب الخاص بمجتمع أو بجماعة معينة من البشر. واتجاه تجريدي يرى الثقافة مجموعة أفكار يجردها العالم من ملاحظته للواقع المحسوس الذي يشتمل على أشكال السلوك المكتسب الخاص بمجتمع أو بجماعة معينة.
وقد ناقش الأنثروبولوجي "هوايت White" هذين الاتجاهين وانتهى إلى نظرية جديدة في تعريف الثقافة، القائلة بأن الثقافة هي الأمور المحسوسة التي تتمثل في الأشياء والأفعال والأفكار التي هي من صنع الإنسان، وعلى عالم الأنثروبولوجيا الثقافية أن يلاحظ تلك الأمور المحسوسة بصورة موضوعية وأن يطبق طرق البحث العلمي بغرض دراسة طبيعتها بدقة والوصول في النهاية إلى القوانين الخاضعة لها. وبهذه النظرية يتضح بأن "هوايت" يرفض الاتجاه التجريدي لكي يحافظ على استقلالية الأنثروبولوجيا عن علم النفس «في دراسة السلوك» ويأخذ بالاتجاه الواقعي.
2-مفهوم الانتروبولوجية الثقافية وماهيتها.
تتناول الانتروبولوجية الثقافية طريقة معيشة مجتمع ما، سواء أكان ذلك المجتمع بدائي أو متخلف أو نامي أو متقدم. والثقافة من صنع الإنسان وهي ظاهرة طبيعية تخضع لقوانين الطبيعة مثل قانون التطور وقانون البقاء للأصلح ولذلك يدرسها هذا الفرع بمناهج علمية لا تختلف عن المناهج التي تستخدمها العلوم الطبيعية.
وقد كان لاكتشاف مفهوم الثقافة من طرف "تايلور Tylor" أكبر الأثر في تنظيم موضوعات هذا العلم في إطار واحد، فهو المركز الذي ينتظم حوله معظم الظواهر التي ترتبط عن قريب أو بعيد بالإنسان، وبالتالي فالأنثروبولوجيا الثقافية ترمي إلى فهم طبيعة ظاهرة الثقافة وتحديد عناصرها سواء في المجتمعات الحالية أو المجتمعات القديمة، فهي تبحث في التغير الثقافي وعمليات الاقتراض والامتزاج والصراع بين الثقافات، وتحديد نتائج تلك الاتصالات الثقافية، كما تدرس خصائص الأشكال المتشابهة من الثقافات أي الأنماط الثقافية التي تحدث بصورة مستقلة في الأماكن والعصور المختلفة.
وتكون دراسة الأنثروبولوجيا الثقافية ذات جانبين:
الجانب الأول: هو الدراسة المتزامنة أو في زمن واحد «أي دراسة المجتمعات والثقافات في نقطة زمنية من تاريخها.
الجانب الآخر: هو الدراسة التتبعية أو التاريخية وهو دراسة المجتمعات والثقافات عبر التاريخ. ومن الواضح أن علم الآثار يكرس نفسه للدراسات التتبعية، حيث يركز في الأساس على المجتمعات والثقافات القديمة، وكذلك على المراحل الغابرة من الحضارات الحديثة، وهو يحاول إعادة رسم صورة الأشكال الثقافية الماضية، وتتبع أثرها وتطورها عبر الزمان.
3-فروع الانتروبولوجية الثقافية:
*الاثنولوجيا Ethnologie:
يختص بدراسة ثقافة المجتمعات الموجودة وقت الدراسة وكذلك الثقافات التي انقرضت بشرط توافر تسجيلات مكتوبة لشهود عاشوا في تلك الثقافات. ويدرس الأثنولوجي كل ثقافة المجتمع أو المجتمعات التي يبحثها، ولذلك يبحث النظم السياسية والاقتصادية والدين والتقاليد والفنون الشعبية وفروع المعرفة والفنون الصناعية وكذلك المثل العليا والفلسفات. وقد اتفق معظم العلماء على إطلاق اصطلاح «اثنوغرافيا» على الدراسة التي تقتصر على وصف ثقافة مجتمع ما، ويطلق اصطلاح «اثنولوجيا» على الدراسات التي تجمع بين الوصف والمقارنة فالأثنولوجي يهتم بالمقارنة بين الثقافات التي يصفها الأثنوغرافي، ويهدف الأثنولوجي من تلك المقارنات الوصول إلى قوانين عامة للعادات الإنسانية ولظاهرة التغير الثقافي وآثار الاتصال بين مجموعات أو أشكال على أساس مقاييس معينة.
*علم الآثار Archéologie:
يدرس ماضي الإنسان، ويرمي إلى تحديد وتتابع التغير الثقافي على مر العصور، ويهدف كذلك إلى إعادة بناء «عملية تصورية» الحياة الاجتماعية لمجتمعات ما قبل التاريخ. ويوجد اختلاف جوهري بين علماء الآثار وعلماء التاريخ، فبينما يدرس علماء التاريخ الفترات المسجلة كتابة للمدنيات الكبرى في الشرق الأوسط وأوروبا والشرق الأقصى، يهتم علماء الآثار بالفترات والمراحل التاريخية الطويلة التي قضاها الإنسان قبل اكتشاف القراءة والكتابة. ويعتمد عالم الآثار في دراساته على البقايا التي خلفها الإنسان والتي تمثل ثقافاته. وقد توصل العلماء إلى أساليب دقيقة لحفر طبقات الأرض التي يحتمل وجود بقايا حضارية بها، وتوصلوا كذلك إلى مناهج دقيقة لفحص تلك البقايا وتسجيلها وتحديد المواقع التي توجد فيها وتصنيفها للتعرف عليها ومقارنتها ببعضها، ويستطيع علماء الآثار عن طريق تلك المناهج استنتاج الكثير من المعلومات عن الثقافات القديمة وتغيراتها واتصالاتها بغيرها.
ويتعاون علماء الآثار في أبحاثهم مع المؤرخين والأنثروبولوجيين باختلاف تخصصاتهم، فمثلا يمدهم الأثنوقرافيون والمؤرخون بالمعلومات الخاصة بالثقافات التي جاءت بعد أو نمت عن حضارات ما قبل التاريخ. كما أنهم يستفيدون من أبحاث ودراسات علماء الجيولوجيا وعلماء النبات والحيوان والمناخ في تأريخ وتحقيق هوية البقايا التي يكتشفونها. وكثيرا ما يستخدمون التجارب المعملية لاكتشاف خصائص ومناخ لبقايا «الأركيولوجية»، ولذلك يحتاج عالم الآثار إلى معرفة واعية بالكيمياء والطبيعيات والمهارات الدقيقة. وقد نجح العلماء المحدثون في اختراع وسيلة جديدة لتحديد عمر البقايا بدقة وهي طريقة «الكربون المشع» وتعرف باسم «C14»، وكثيرا ما يتعاون علماء الآثار مع غيرهم من العلماء المتخصصين في انثروبولوجيا الطبيعة وذلك لكثرة تواجد الحفريات الإنسانية مع البقايا الثقافية، وتوضع البقايا التي يكتشفها علماء الآثار في متاحف خاصة بذلك، ومن أمثلة تلك البقايا الأدوات الحجرية للإنسان القديم وكذلك قطع صغيرة من الأواني الفخارية، وحراب وأقواس وسهام قديمة للغاية. وتوجد بعض الأقسام - في الجامعات الكبيرة المتقدمة - المتخصصة في علم الآثار وتدرس مبادئ العلم لطلبة أقسام الأنثروبولوجيا بكليات العلوم الاجتماعية، على أن يتخصص الطالب في الدراسات العليا في علم الآثار.
*علم اللغويات Archéologie:
يستخدم المنهج العلمي في دراسة اللغات، ويعتبر أحد فروع الأنثروبولوجيا الثقافية لأن اللغة أحد عناصر الثقافة بل هي أهم تلك العناصر. وينقسم علم اللغويات إلى أقسام فرعية أهمها علم اللغويات الوصفي، وعلم أصول اللغات. ويهتم علم اللغويات الوصفي بتحليل اللغات في زمن محدد ويدرس النظم الصوتية وقواعد اللغة والمفردات، ويعتمد عالم اللغة في دراساته على اللغة الكلامية ولذلك يستمع إلى المواطنين وخاصة أن معظم دراساته تكون متعلقة بلغات كلامية لم تكتب بعد، فيقوم عالم اللغة بكتابة تلك اللغات عن طريق استخدام رموز دولية متعارف عليها. تتركز معظم تلك الدراسات في المجتمعات البدائية التي لم تعرف القراءة والكتابة ولكنها ذات لغة كلامية إذ لا يوجد مجتمع إنساني مهما تخلفت ثقافته دون لغة كلامية.
أما علم أصول اللغات فيختص بالجانب التاريخي والمقارن حيث يدرس العلاقات التاريخية بين اللغات التي يمكن متابعة تاريخها عن طريق وثائق مكتوبة، وتتعقد المشكلة بالنسبة للغات القديمة التي لم تترك وثائق مكتوبة، وتوجد وسائل خاصة لبحث تاريخ تلك اللغات، يهدف هذا القسم إلى تحديد أصول اللغات الإنسانية.
توجد علاقات تعاونية بين عالم اللغة والأنثروبولوجي الثقافي، وذلك لأن على الأثنولوجي والأنثروبولوجي الاجتماعي أن يدرس لغة المجتمع الذي يبحثه ولا يتم ذلك إلا عن طريق دراسة مبادئ علم اللغويات، ولكن من الناحية الواقعية نلاحظ أن علم اللغويات له أقسام مستقلة في الجامعات، والسبب في ذلك إمكان دراسة اللغة وتحليل عناصرها بصورة مستقلة عن بقية عناصر الثقافة ويقوم المتخصصون في تلك الأقسام بتدريس مادة اللغويات وفروعها لطلبة أقسام الأنثروبولوجيا. وقد تقدم علم اللغويات في العصر الحاضر ويستخدم الآن مناهج وآلات دقيقة في دراسة لغات العالم ولذلك توصل إلى قوانين عامة دقيقة لا تقل في دقتها عن قوانين العلوم الطبيعية.
4-نشأة الانتروبولوجية الثقافية و فتراتها التكوينية (مراحلها).
أ- نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية:
موضوع دراسة الأنثروبولوجيا الثقافية هو الثقافة، ولذلك ارتبطت نشأة هذا الفرع للأنثروبولوجيا بظهور أول مفهوم واضح لاصطلاح الثقافة، وقد تم ذلك لأول مرة على يد "تيلور Tylor" في عام 1871م حين قال: «الثقافة ... هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات، وأي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضو في المجتمع» وقد ساد هذا التعريف عند كل رواد هذا الفرع في القرن التاسع عشر، بل أن العلامة الأمريكي "لوي Lowie" الذي يعد مؤسس الأنثروبولوجيا الثقافية في أمريكا – قد بدأ كتابه الشهير «المجتمع البدائي 1920» بنقل تعريف "تايلور" للثقافة ووصفه «بالتعريف الشهير»، ومن الرواد الآخرين لهذا الفرع في أمريكا كل من "مورجان Morgan" و "باندليير Bandlier" و "كاشينج Cushing" و"دورسي Dorsey" و "فليتشر Fletcher"، أما في انجلترا فبالإضافة لإلى العالم "تايلور" نجد العلماء "مين Maine" و"ماكلينان Mclennan" و"بت رفز Pitt Rivers" و"لبوك Lubbock" و"روبرتسن سميث Robertson Smith" و"فريزر Frazer"، ومن العلماء الألمان العالم "باخوفين Bachofen"، وكان لظهور العالم الأمريكي "فران بواز Franz Boas" «1858-1943م» أكبر الأثر في الأنثروبولوجيا إلى وجهة جديدة تختلف عن المدرسة التطورية، ويرجع إليه الفضل في نشر الأنثروبولوجيا الثقافية في أمريكا بحيث أصبح معظم المتخصصين في هذا الفرع من الأمريكيين، ومن الممكن تسمية الاتجاه الجديد «بالمدرسة التاريخية» ويتمثل في موضوعين:
الأول: الاهتمام بالدراسات التفصيلية لثقافات فردية صغيرة مثل ثقافات العشائر والقبائل، وتتم دراسة العشيرة أو القبيلة في إطار منطقتها الإقليمية الثقافية، وترمي تلك الدراسة إلى إعادة بناء وتصور تاريخ ثقافة تلك العشيرة أو القبيلة في الماضي.
الثاني: المقارنة بين تواريخ مجموعة القبائل التي درست لتحقيق الغرض النهائي للأنثروبولوجيا الثقافية كما يحدده العالم "بواز"، وهو الوصول إلى قوانين عامة لنمو الثقافات، وكانت القوانين التي توصل إليها "بواز" عن طريق منهجه هذا ذات طابع نفسي.
ب-فتراتها التكوينية:
أ-الفترة التكوينية للأنثروبولوجيا الثقافية 1900-1915
تركزت في تلك الفترة مجهودات وأعمال تلاميذ العالم "بواز" في القسم الأول من اتجاهه أو نظريته وهي الدراسات التفصيلية لمجتمعات صغيرة لتحديد عناصر وتاريخ وتطور ثقافاتها، ونتج عن ذلك دراسات ميدانية كثيرة متعلقة بالقبائل الهندية في أمريكا، وكانت تلك القبائل في طريقها للانقراض مما أدى إلى تلهف علماء الأنثروبولوجيا على تسجيل ثقافاتها. وجاءت بعد ذلك مشكلة هامة وهي تنظيم تلك المعلومات الكثيرة والمتعددة الخاصة بقبائل الهنود الحمر، وتوصل العالم الأمريكي "ويسلر Clark Wissler" إلى وسيلة جديدة في هذا المجال تعرف «بالمنطقة الثقافية»، ترمي تلك الوسيلة إلى تقسيم أو تصنيف ثقافات العالم إلى مجموعات ثقافية، تتكون كل مجموعة من عدة ثقافات متشابهة، وقد أطلق على كل مجموعة مصطلح «المنطقة الثقافية»
فالمنطقة الثقافية هي إقليم أو منطقة من العالم تعيش عليها مجموعة من المجتمعات الإنسانية ذات الثقافات المتشابهة، وللوصل إلى تحديد تلك المنطقة الثقافية لابد من دراسة ثقافات مجتمعات منطقة محدودة بشيء من التفصيل لتحديد عناصر تلك الثقافات وتحديد مدى انتشار تلك العناصر في المنطقة الثقافية، وتعرف العناصر الثقافية ومن أمثلة تلك العناصر الوسائل المستخدمة في الحصول على الطعام وطرق طهي الطعام والأدوات المستخدمة في الصيد وفي الطهي والزينة، والمواد المستخدمة في بناء المنازل وأساليب بناءها، هذا بالإضافة إلى النظم الاجتماعية كنظام القرابة واصطلاحات القرابة ونظم الزواج ونظم تربية الأبناء والنظام الديني بعناصره المختلفة والنظام السياسي وما إلى ذلك، وقد وضع "ويسلر" نموذجا لشرح نظريته فشبه المنطقة الثقافية بدائرة، ومركز تلك الدائرة يمثل «مركز الثقافة» ويقصد بذلك المصطلح المكان أو المجتمع الذي تتركز فيه معظم العناصر الثقافية المنتشرة في المنطقة الثقافية أو الذي يوجد فيه أكبر تكرار للعناصر الثقافية النمطية، وبالقرب من محيط الدائرة يوجد «هامش الثقافة» حيث تقل عناصر المنطقة الثقافية وذلك لاختلاط تلك العناصر بعناصر ثقافية أخرى. طبق مفهوم المنطقة الثقافية بدرجات متفاوتة من النجاح على عدة نظم ثقافية في مناطق متعددة من العالم بل لقد طبق على قارات بأكملها مثل أمركا الشمالية وأفريقيا وآسيا وأوروبا. حاول بعض العلماء الانتقال من مبدأ «المنطقة الثقافية» القائم أساسا على فكرة ظهور العنصر الثقافي في مكان محدد لأول مرة ثم ينتشر استخدامه في المناطق المحيطة به إلى مبدأ «المنطقة الزمنية» على أساس أن عمر العنصر الثقافي يكون في المكان الذي ظهر فيه أطول من عمره في الأماكن الأخرى التي انتشر فيها، تعرض تطبيق مبدأ «المنطقة الزمنية» لعقبات ومشاكل كثيرة ولذلك لم ينجح مثل مبدأ «المنطقة الثقافية» وليس معنى ذلك أن نظرية «المنطقة الثقافية» لم تتعرض للنقد السلبي، فقد أثير حولها الكثير من الجدل والاعتراضات، وقد لخص العالم "ديكسون Dixon" تلك الاعتراضات فيما يلي:
عدم وضوح طريقة التطبيق، فمثلا نمط ثقافي مثل الزراعة هل ننظر إليه على أنه عنصر ثقافي بسيط أم عنصر ثقافي مركب يتكون من عدة عناصر ثقافية بسيطة؟
صعوبة تحديد خطوط دقيقة تفصل بين منطقة ثقافية وأخرى، إذ أن مثل تلك الخطوط لا توجد في الواقع نظرا لتداخل المناطق الثقافية في الإقليم الواحد.
قد يفهم من نظرة «المنطقة الثقافية» أن هناك ترابط بين البيئات الجغرافية والحضارات التي توجد فيها، ولكن تثبت الدراسات الميدانية عدم عمومية ذلك الترابط، إذ يعيش الإنسان في البيئات الجغرافية المتشابهة بطرق معيشة مختلفة تماما عن بعضها بحيث نجد ثقافات مختلفة تماما في بيئات جغرافية متشابهة، ومن ناحية أخرى قد نجد ثقافات متشابهة في بيئات جغرافية مختلفة.
ب-فترة ازدهار الأنثروبولوجيا الثقافية «1915-1930م».
تتميز تلك الفترة بكثرة الأبحاث والمناقشات في الأنثروبولوجيا الثقافية ويرجع ذلك إلى نضوج العلم ووضوح مفاهيمه ومناهجه، أخذت تتركز دراسات هذا العلم في أمريكا وأصبح معظم علمائه من الأمريكيين.
افتتح العالم الأمريكي "سابير Sapir" هذه الفترة ببحثه الشهير: «عامل الزمن...» وبدأه بالعبارات التالية التي تؤكد مبادئ المدرسة التاريخية: «تسير الأنثروبولوجيا الثقافية بسرعة نحو اتخاذ القرار صورة على التاريخ، إذ لا يمكن فهم معطياتها سواء في ذاتها أو في علاقتها مع بعضها إلا على أنها فقط نهاية لحوادث معينة متتابعة ترجع إلى ماضي بعيد.» ويقصد بذلك أنه لا يمكن فهم الدراسات الوصفية لعناصر الثقافات المختلفة إلا عن طريق تحليل تاريخ تلك العناصر أي لا يمكن فهم الحاضر إلا بالرجوع إلى الماضي.
قام في تلك الفترة الكثير من العلماء مثل "ويسلر Wissler" و "لوي Lowie" و"كروبرKroeber" و"سبير Spier" والعالمة الأمريكية "بينيديكت Benedict" بأبحاث ممتازة خاصة بدراسات إقليمية تطبق فيها التحليل التوزيعية للعناصر الثقافية في حدود فترات زمنية معينة وتطبق فيها كذلك تحليل العمليات الثقافية.
توصل العالم "ويسلر" إلى مبدأ الانتشار الخاص بانتشار العناصر الثقافية من مجتمع لآخر، وبحث "ويسلر" كذلك العوامل الدينامية التي تؤثر في المنطقة الثقافية والبيئة الجغرافية المؤثرة فيه.
وفي انجلترا ظهر فرع أخر لتلك المدرسة الانتشارية وخير من يمثلها العلامة "سميث Elliot Smith" الذي كان متخصصا في المخ الإنساني ثم أصبح مهتما بدراسات الأنثروبولوجيا الثقافية. وقد أعجب "سميث" وبعض زملائه في جامعة مانشستر بالآثار التي اكتشفها عالم الآثار "بتري" في مصر، عندما فحصوا المعطيات الثقافية والآثار الخاصة بأماكن أخرى في العلم وجدوا تشابها واضحا بين تلك الآثار وآثار مصر القديمة فاستنتجوا من ذلك انتشار عناصر الثقافة المصرية من مصر إلى جميع أجزاء العالم.
كما يوجد فرع آخر للمدرسة الانتشارية في ألمانيا اختص بدراسة تاريخ ثقافات العالم وكانوا يطلقون على طريقهم اصطلاح المنهج التاريخي في دراسة الثقافة. ويعد العلامة الألماني "جرابنر graebner" المؤسس الأول لذلك الفرع.
ازدهرت في تلك الفترة الأنثروبولوجيا الثقافية ليس فقط لكثرة الأبحاث والمدارس وإنما لازدياد اهتمام الدول المتقدمة بهذا العلم عن طريق إنشاء المتاحف الأنثروبولوجية وخاصة في أمريكا التي اهتمت بجمع الآثار والتحف الفنية الممثلة لجميع ثقافات العالم وتصنيفها وعرضها بطريقة جذابة في المتاحف المعدة لذلك.
ج-الفترة التوسعية للأنثروبولوجيا الثقافية «1930-1940م».
تتميز تلك الفترة بالتحولات والمشكلات الخاصة بالأنثروبولوجيا الثقافية وخاصة في أمريكا التي تركزت فيها دراسات هذا الفرع للأنثروبولوجيا. ففي تلك الفترة تعرضت كل من المدرسة التاريخية والمدرسة الانتشارية للنقد الشديد من داخل ومن خارج أمريكا وخاصة من علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية. اعترفت الجامعات الأمريكية والأوروبية بالأنثروبولوجيا الثقافية وخصصت لها فرعا في أقسام علم الاجتماع، على النقيض من ذلك ضعف نشاط المتاحف الأنثروبولوجية وقلة أبحاثها بسبب الانهيار الاقتصادي الذي تعرضت له أمريكا في تلك الفترة. وفي تلك المرحلة تقدم علم الآثار وأصبح له مناهج ومقاييس خاصة بعمليات تاريخ الآثار والعناصر الثقافية، أثبتت تلك المقاييس عدم صحة نتائج «المدرسة الانتشارية» التي اعتمدت فقط على التحليل التوزيعي للعناصر الثقافية.
في هذه الفترة تقدمت وازدهرت دراسات الأنثروبولوجيا الاجتماعية بفضل أبحاث كل من "مالينوسكي Malinowski" و"راد كليف براون Radcliffe Brown"، وعندما وصلت تلك الأبحاث إلى أمريكا معقل الأنثروبولوجيا الثقافية أحدثت آثارا عميقة في مفاهيم ومناهج الأنثروبولوجيا الثقافية إذ تبين أن هناك مدارس أخرى غير «المدرسة التاريخية» و«المدرسة الانتشارية». فنجد العالم "كروبر Kroeber" يعيد فحص العلاقة بين «المناطق الثقافية» و«المناطق الجغرافية الطبيعية» بطريقة أكثر عمقا. وتوصل إلى مفهوم جديد وهو «قمة الثقافة» ويقصد بذلك النقطة أو المكان الذي يمثل أقصى تركيز أو تمثيل لثقافة معينة.
ومن النظريات الهامة التي اكتملت معالمها في تلك الفترة «النظرية التناسقية التكاملية»، مهد لها العالم الأمريكي "سابير Sapir" عندما اعترض على فكرة فصل الثقافة عن الأفراد الذين يصنعونها ولذلك نادى بضرورة اهتمام الأنثروبولوجيا بالفرد وبأفكاره وبمشاعره وعدم ترك هذا الموضوع لعلماء النفس وحدهم، أكد خاصية «الرمزية» لأن كل سلوك ثقافي هو سلوك رمزي، أي قائم على معاني مشتركة ومتبادلة بين أفراد المجتمع موضوع الدراسة.
هذه المدرسة تجمع بين الاهتمام بالسلوك والأعمال والاهتمام بالأفكار والعواطف والقيم والأهداف عند دراسة الثقافة. ظهر تأثير تلك المدرسة في أيامنا هذه إذ نجد ازدياد الاهتمام بدراسة الثقافة والشخصية معا بحيث لا يمكن فهم أحدهما دون الآخر، وتعرف تلك الدراسات باسم «الأنثروبولوجية النفسية». نجد العالم "سابير" يربط بين تحليلاته للثقافات ونظريات علم النفس العلاجي، ونلاحظ أن العالم "لينتون Leniton" يتخذ موقعا توفيقيا بين المناهج القديمة والحديثة وركز اهتمامه في اتجاه جديد هو موضوع «الثقافة والشخصية» الذي يمثل التعاون بين الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم النفس.
ومن التفرعات الجديدة الأخرى التي ظهرت في تلك الفترة التوسعية ،الاهتمام بموضوع «امتزاج الحضارات»، اهتم به كل من "ريدفيلد" و"لينتون" و"هيرسكوفيتز" وغيرهم. ويجب الإشارة أيضا إلى ظهور فرع الأنثروبولوجيا التطبيقية الذي يستخدم مفاهيم ونتائج الأنثروبولوجيا في المجالات العملية مثل الإدارات والهيئات الخاصة بتطوير قبائل الهنود الحمر بالأمريكيتين وقد سبق عرض بعض دراسات ذلك الفرع.
ومن الخصائص الأساسية لتلك الفترة التوسعية أنه رغم غزارة تلك التفرعات التي انبثقت عن الأنثروبولوجيا الثقافية لم تظهر دراسات ممتازة تتناول موضوع العلم الأساسي ولذلك لم يحدث تقدم واضح في مفاهيم ومناهج ومدارس الأنثروبولوجيا الثقافية.
د-الأنثروبولوجيا الثقافية في الفترة المعاصرة «1940- 1970م».
تتميز تلك الفترة بظهور اتجاهات جديدة وبانتشار الأنثروبولوجيا الثقافية في الجامعات الأمريكية والأوروبية وكذلك في جامعات المجتمعات النامية بأفريقيا وآسيا وأمركيا اللاتينية، ويجب ملاحظة أن اهتمام الجامعات الأفريقية يتركز حول الأنثروبولوجيا الاجتماعية نظرا لارتباطها بالجامعات الانجليزية التي لا تعترف تقريبا إلا بالأنثروبولوجيا الاجتماعية.
وتعد الدراسات على المستوى القومي من أهم الاتجاهات الحديثة في الأنثروبولوجيا الثقافية إذ انتشرت الدراسات الخاصة بالمجتمعات الحديثة الكبيرة بغرض تحديد خصائص ثقافتها على المستوى القومي، فنجد أبحاثا حول خصائص الثقافة الأمريكية أو الثقافة الألمانية أو الثقافة اليابانية أو الصينية، ومما ساعد على ظهور هذا الاتجاه فترة الحرب العالمية الثانية، فنجد العالمة الأمريكية "بنيديكت" تقوم بدراسة لتحديد معالم الثقافة اليابانية والمعروف أن اليابان كانت في حالة حرب مع أمريكا في ذلك الوقت، لذلك اعتمدت في تلك الدراسة على اليابانيين الموجودين في أمريكا بالإضافة إلى المراجع المكتبية.
ومن أهم الأبحاث الحديثة في الأنثروبولوجيا الثقافية الاتجاه التخصصي وهو اتجاه ذو جوانب متعددة، فقد يتخصص العالم في دراسة منطقة ثقافية محددة أو في دراسة ثقافية معينة بالذات أو في خصائص ومبادئ الأنثروبولوجيا الثقافية مثل المنهج وطرق البحث أو تسجيل تاريخ هذا العلم.
ترتب على انتشار الاتجاه التخصصي أن اتضحت الفروق بين الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية وأصبحا فرعين مختلفين للأنثروبولوجيا.
ظهر في الفترة المعاصرة اتجاه حديث آخر وهو زيادة التعاون والتبادل على مستوى الأساتذة وطلبة الدراسات العليا المتخصصين في الأنثروبولوجيا بفرعيها الثقافي والاجتماعي. فأقامت بعض الجامعات الانجليزية والأمريكية محطات للدراسات الحقلية للأنثروبولوجيا بأفريقيا وآسيا. وبدأت بعض المؤسسات تشجع وتمول أبحاث الأنثروبولوجيا الحضارية مما أدى الى ازدهار تلك الأبحاث.
5- علاقة الأنثروبولوجيا الثقافية بالأنثروبولوجيا الاجتماعية.
يختلف الأنثروبولوجيون فيما بينهم حول وضع الحدود الفاصلة بين الأنثروبولوجيا الثقافية والأنثروبولوجيا الاجتماعية. فلا يمكن تحديد الفروق الأساسية بين الأنثروبولوجيا الثقافية التي تختص بموضوع الثقافة والأنثروبولوجيا الاجتماعية التي تختص بالبناء الاجتماعي الذي هو أحد القطاعات الكبرى للثقافة، وذلك لوجود اختلافات في المراحل التكوينية التي مر بها كل علم.
لذلك تذهب المدرسة الإنجليزية إلى ضرورة الفصل بين الأنثروبولوجيتين على أساس أن كل فرع مهما مستقل بذاته، أما المدرسة الأمريكية فترى أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية فرع من فروع الأنثروبولوجيا الثقافية. فقد استخدم مصطلح الأنثروبولوجيا الاجتماعية في انجلترا لأول مرة عندما أطلق على أول كرسي جامعي لهذا العلم، ولقد شغله "فريزر Fraiser"، ولقد اختير هذا المصطلح للتمييز بينه وبين الأنثروبولوجيا الطبيعية الذي كان يطلق عليه تجاوزا مصطلح «الأنثروبولوجيا»
اتضح مفهوم هذا العلم بوضوح عندما شغل ذلك الكرسي العالم "راد كليف براون Radcliffe Brown" الذي حدد موضوعه على الأنثروبولوجيا الاجتماعية من موضوع الأنثروبولوجيا الثقافية عندما قرر "دور كايم Durh Keim" ضرورة دراسة الظواهر الاجتماعية على أنها «أشياء»، ترتب على ذلك إعلان كل من العلامة الفرنسي "موس Mauss" والإنجليزي "مالينوسكي" أن «الأشياء» التي من صنع الإنسان هي أيضا ظواهر اجتماعية وتدخل في نطاق علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية، يرى العالم "ليفي ستراوس" أن هذا الإدماج للأشياء في نطاق الأنثروبولوجيا الاجتماعية ساعد على اقترابه التام من الأنثروبولوجيا الثقافية ويقول ما نصه: «وهكذا يمكن لنا أن نقول أن الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأنثروبولوجيا الثقافية أصبحتا تدرسان نقس الموضوعات، ولكن يوجد اختلاف بسيط وهو أن الأنثروبولوجيا الثقافية تبدأ بدراسة الأشياء المادية والفنون العملية وتنتقل منها إلى دراسة النشاط الاجتماعي والسياسي، بينما تبدأ الأنثروبولوجيا الاجتماعية بدراسة الحياة الاجتماعية والانتقال بعد ذلك إلى دراسة الأشياء التي هي من نتاج العلاقات الاجتماعية وعن طريقها تعبر الحياة الاجتماعية عن نفسها. ويمكن تشبيه هذين العلمين بكتابين يحتويان على فصول متشابهة، ولكن يختلفان في ترتيب تلك الفصول وفي عدد الصفحات».
ومع ذلك فهو يعترف بوجود اختلافات أخرى يسميها بالطفيفة، ففيما يتعلق بالأنثروبولوجيا الاجتماعية نجد أنها من اكتشاف أن جوانب الحياة الاجتماعية من اقتصادية وفنية وسياسية وقانونية وجمالية ودينية تكون في الحقيقة مركبا متميزا لا يمكن فهم أي جانب منه إلا بالرجوع إلى باقي جوانب ذلك المركب لمعرفة التداخل الوظيفي بينهما، ونمى من مفهوم الوظيفة الاجتماعية مفهوم جديد وهو البناء الاجتماعي وهو مصطلح علمي للمركب سابق الذكر، وأصبح البناء الاجتماعي هو موضوع الأنثروبولوجيا الاجتماعية وساد الاتجاه الإستاتيكي في دراسات هذا العلم، ورغم أن الأنثروبولوجيا الثقافية قد توصلت لذلك الفهم الكلي للثقافة كمركب متداخل العناصر والجوانب إلا أنها اتبعت في ذلك الاتجاه الدينامي وخاصة في عملية انتقال التراث الثقافي من جيل إلى جيل، وعن طريق ذلك الاتجاه الدينامي وضحت الثقافة ككل متداخل وليس كعناصر متفرقة، وينتهي "ليفي ستراوس" من هذه المناقشة إلى استنتاج أن الفرق بين العلمين هو في أسلوب الدراسة وليس موضوع الدراسة لأن الموضوع واحد تقريبا فلا يوجد مجتمع إنساني دون ثقافة، ولا يمكن أن توجد ثقافة حية دون مجتمع.
الفصل الثاني : الانتروبولوجية الاجتماعية
بالنسبة لموضوعي في هدا البحث المتواضع،هو تقليد حديث خاص في الخطاب الفكري الطويل الأمد و المتغير حول جدلية الثقافة، المجتمع و الحضارة،و مساهمتهما في تركيبة الانتروبولوجية الاجتماعية ، فقبل الخوض في تعريف هده الاخيرة ، وتبيان نشأتها و مراحلها و أهدافها ، لابد أن نعرف هاته المصطلحات المساهمة في تركيبتها، و نبرز العلاقة بينها.
فمصطلح الثقافة كان أول من عرفه هو العالم الانتروبولوجي "تايلور" في الجملة الافتتاحية في كتابه "الثقافة البدائية" لكن هناك اختلاف تام بين الباحثين في تدقيق هدا المفهوم ،اد نجد البعض قد نفاه من العلم، فعند العرب و في المعاجيم ، كان هناك لفظ "ثقف" يطلق على الحذق و الفهم والإدراك ، و قد عرفها بعض الباحثين بأنها أسلوب الحياة السائدة في المجتمع
حيث يتشربها الإنسان مند ولادته و تكون عاداته و تقاليده. وحتى نبقى في الإطار الانتروبولوجي للثقافة ،فقد استعملها الانتروبولوجيين استعمالات مختلفة بعضها ضيق و بعضها الآخر أكثر توسعا و لعل هدا ما تم توضيحه في الفصل السابق.
أما في علاقتها مع المجتمع داخل الإطار الانتروبولوجي ، يمكن القول مع "فرانسوا لابلانتين" أن الاجتماعي هو جملة العلاقات التي تقيمها المجموعات البشرية فيما بينها وداخل جماعة واحدة بعينها، وفي علاقاتها بجماعات اخرى تخضع هي الأخرى الى تراتبية ، أما الثقافة فهي ليست شيئا آخر سوى الاجتماعي ذاته و لكن منظورا إليه في هده المرة من زاوية الخصائص المميزة التي تمثلها سلوكات الأفراد الأعضاء في هده المجموعة . وكذلك انتاجاتها الأصلية (الحرفية ، الفنية ، الدينية..) وأما في علاقاتها مع الحضارة ، فهاته الأخيرة أوسع من الثقافة بمعنى أنها تشتمل الثقافة و لكن لا تشتمل الحضارة ، فالحضارة تشتمل الجانبين المعنوي و المادي، أما الثقافة فهي تحمل الجانب المعنوي بما يشمل من التراث الفكري، و لكن قد تبدوا العلاقة بين هاتين المصطلحين وثيقة، حيث قد تكون الثقافة هي الركيزة التي تقوم عليها الحضارة .
إن المهم في طرح و تفسير هاته المصطلحات هو أنها ساهمت في بروز ما يسمى بالانتروبولوجيا الاجتماعية تركيبيا باعتبارها تدرس و تضم هاته المفاهيم ،ادن ،مادا نقصد بالانتروبولوجيا الاجتماعية ؟ و كيف نشأت ؟ و ما هي أهم مراحلها ؟
1- مفهوم الانتروبولوجية الاجتماعية:
لا يخفى على احد أن الانتروبولوجيا الاجتماعية ،تعتبر دراسة للسلوك الاجتماعي الذي يشمل النظم و التنظيمات الاجتماعية و علاقاتها التي تختلف داخل الأنساق الاجتماعية للتفاعل و التواصل ، وهي ذات طابع شبه مستقر كنظام "الأسرة ( وهو نظام قرابي و تربوي و أحيانا تصبح نظاما لمجموعة عمل ) . و كدا نظام الجماعات السياسية أو الدينية أو المدنية أو نظام الأنشطة اللعبية أو الجماعات المهنية، فيعرف "guy rocher " التنظيمات الاجتماعية بأنها أنظمة شمولية لعناصر مختلفة تسمح بهيكلة الفعل الاجتماعي ( تربية كانت أو تبادلا أو ممارسة للسلطة أو فعلا دينيا ) و قد تنشا هده التنظيمات كاستجابة لاكراهات خارجية تفرض ذاتها على الإنسان، و كل تنظيم اجتماعي يشكل ظاهرة شبه مستقلة تخضع لقوانين عملها الداخلي، و لكن هل يمكننا أن نضع الفرق بين الإنسان كحيوان اجتماعي كلاسيكيا و الإنسان الذي يحمل ثقافة ؟ و هل يمكن اعتبار السلوك ضربا من الثقافة ؟
إن اللغة و الحياة الاجتماعية المنظمة قد أعطت للإنسان أدوات وافية لنقل الثقافات مهما بلغت من التعقيد و المحافظة على تراثها بصورة غير ايجابية ،حيث عملت على جعل الإنسان في حاجة الى ارث اجتماعي، يفوق في ثروته ما تحتاج إليه الحيوانات ،و نمت المحافظة على المجتمعات البشرية بتدريب أجيال متلاحقة من الأفراد، و لدا كانت المجتمعات هي نفسها حصيلة الثقافة.
2-نشأة الانتروبولوجيا الاجتماعية و تطورها:
تشكل الانتروبولوجيا الاجتماعية حاليا احد أهم المباحث الاجتماعية التي تندرج في ما يسمى بالعلوم الاجتماعية ، و تقترح ذاتها كمعرفة للإنسان و علاقاته و سلوكاته و تنظيماته ،فمعرفة الإنسان ليست جديدة مع هده المدرسة ، و لم تظهر فقط داخل الدراسات الاجتماعية الحديثة ، و لكن تضمنتها الفلسفات القديمة و المعارف الدينية و الثقافات التقليدية، لكن مهمة الانتروبولوجيا الاجتماعية هي دراسة المجتمعات الإنسانية على المستويات الحضارية كافة، و لاسيما دراسة أساليب حياة المجتمعات المحلية من خلال لغاتها و لهجاتها ، و هدا ما جعل هده المدرسة تنوه الانتروبولوجية على كافة العلوم الإنسانية ، و لعل ما يدل على حداثة هدا العلم هو النزاع القائم بين علماء الاجتماع على هده التسمية ( الانتروبولوجية الاجتماعية) ، و هدا النزاع جعلها تمر بعدة مراحل أساسية وفقا لأهداف معينة . ادن فما هي أهم مراحل هدا العلم الجديد ؟ و ما هي خلفياته و أهدافه الرئيسية ؟
3-مراحل الانتروبولوجية الاجتماعية و أهدافها:
قبل البدأ في ذكر أهم المراحل التي مرت بها الانتروبولوجية الاجتماعية لا بأس أن نتطرق لأهم العوامل التي ساهمت في بروز هده العوامل الجديد، و هنا نستحضر كتاب "روح القوانين" لمونتسكيو" و الذي أكد فيه أن المجتمع البشري و ما يحيط به ، يتكون من مجموع نظم مترابطة ، بحيث لا يمكن فهم القوانين عند أي شعب من الشعوب ، إلا ادا درسنا العلاقات التي تحكم هدا النظام ، و ميز كذلك بين البناء الاجتماعي و النظام القيمي ،و أوضح أن المجتمع ذاته و ما يحيط به ، يتكون من نظم يرتبط بعضها ببعض ارتباطا و وثيقا ، و بالتالي لا يمكن فهم القانون العام لدى أي شعب إلا ادا درسنا العلاقات بين هده القوانين كلها.
وهناك نظرة العالم الاجتماعي " سان سيمون " ، فرغم انه لم يقصد إنشاء علم الانتروبولوجيا الاجتماعية ، فهو قد قصد إيجاد علم خاص يدرس النظم الاجتماعية و علاقاتها بشكل موضوعي، وكل هده الأسباب يمكن اعتبارها مرحلة تمهيدية لبروز الانتروبولوجية الاجتماعية.
أما في النصف الثاني من القرن 19 ، أي فترة نشوء الانتروبولوجيا كعلم مستقل عن الفكر الفلسفي و معترف به ابستومولوجيا ، كانت العديد من الإسهامات و الكتب التي بحثت في هدا العلم و حددت معالمه الأساسية و لاسيما مؤلفات كل من ( تايلور و ماكلينان) في انجلترا (و بافوفين ) في سويسرا ، حيث اهتم هؤلاء بجمع المعلومات عن الشعوب البدائية ، و أبرزها بصورة منهجية منظمة من خلال دراسة النظم الاجتماعية في حدود الابنية الاجتماعية لهده المجتمعات. وليس في حدود الفلسفة و علم النفس ، فوضعوا بدلك أسس علم الانتروبولوجية الاجتماعية.
ولكن هده الدراسات لم توضع بشكل ميداني بل تبقى نظرية تجريدية ، و هنا ظهرت مدرستين متداخلتين هما : النشوئية و التطورية ، فالأولى تركز على الأسس العلمية لهدا العلم و الثانية تركز على دور التطور في حياة الجماعة الاثنية أو البشرية عامة. ويمكن القول بان هده المدرسة في مجال الانتروبولوجية قد تأثرت الى حد كبير بالنزعة التطورية "الداروينية" و المباحث التاريخية التي ولدتها ، بموجب هده النزعة ينظر الى البشرية في تطورها باتجاه التقدم الدائم ، فالمجتمعات تنحو الى الانتقال من حالة البساطة النسبية في تنظيمها الى حالة متزايدة التعقيد و التمايز، فالإنسان في ظل شروط وجوده الأولية داخل الطبيعة ، قد اضطر بفضل تكيفه حسب داروين –الى تنمية خصلتين من خصاله ، ضروريتين لبقائه على قيد الحياة هما:
لياقته البدائية و شيء من الحس الخلقي أو ضرب من الغريزة المجتمعية ، وهدا ما مكنه من التكيف مع البيئة على نحو أفضل من غيره، فبالرغم من أن هدا المبدأ يعتبر بيولوجيا في الأصل ، فانه كان مفيدا للانتروبولوجيا اد يقول الاستاد "الفريد كروبر" أن هده النظرية دفعت علماء القرن 19 الى البحث الحقيقي في أصل الأنواع ، وهنا ظهرت كتابات تتناول مواضيع عدة كأصل اللغة و الحضارة و المجتمع.
وفي الربع الأخير من القرن 19 ظهرت بحوثات ميدانية ، مما زاد في بروز هدا العلم ، خصوصا الدراسة الميدانية التي قام بها العالم الانجليزي " هادون " على منطقة تور ليس)
ودلك بتحديد منهج الانتروبولوجيا الاجتماعية.
أما في القرن 20 و صلت الانتروبولوجيا الاجتماعية الى مرحلة التخصص و دلك بدراسة للبنى الاجتماعية للمجتمعات ، و لاسيما القديمة منها ، حيث ازدادت البحوث الميدانية وهنا نستحضر بحث "راد كليف براون" على سكان "البنغال" ثم بحث "مالينوفسكي" الذي يعتبر أول بحث انتروبولوجي يتمكن من فهم حياة الناس و علاقاتهم الاجتماعية.
أهداف الانتروبولوجيا الاجتماعية:
يمكن القول أن الانتروبولوجيا الاجتماعية تشتمل ثلاث أهداف رئيسية يمكن إدراجها فيما يلي:
أولا: تحديد نماذج عالية للأبنية الاجتماعية ، ودلك بضرورة اتفاق العلماء على هده النماذج و ضرورة وجود مصطلحات شاملة للانتروبولوجيا الاجتماعية.
ثانيا: تحديد مظاهر التداخل و الترابط بين النظم الاجتماعية، ودلك باستخدام المنهج الكلي و عدم الاقتصار على الوصف قصد تدقيق دراسة هده المظاهر و الخروج من الحس الفلسفي النظري الى المنهج الامبريقي.
ثالثا:تحديد عمليات التغير الاجتماعي ، حيث تهدف الدراسات الانتروبولوجية الاجتماعية ، الى تحديد خصائص هدا التغير و عملياته ، و التي تحدث في الأبنية الاجتماعية ، سواء ذات المعدل السريع في التغير أو المعدل المتوسط أو البطيء ،وكل هدا الاختلاف في المجتمعات جعل هدا المعدل يختلف و بالتالي تعقده.
الفصل الأخير:
الاتجاهات المعاصرة لدراسات الانتروبولوجية
اصطدمت النظرية التطورية التي ظهرت في القرن 19 انتقادات واسعة باعتبارها استندت إلى الحدس والتخمين وتعميم الأحكام المطلقة على الثقافات الإنسانية ، من دون أن تثبت صحة ذلك بالبراهين أو القرائن العلمية الواقعية.
و لذلك بدأت تضمحل تدريجيا مع بداية القرن 20 .لتحل محلها أفكار نظرية جديدة لدراسة الثقافات الإنسانية ، من حيث نشوؤها ومكوناتها و تطورها ، فكان أن ظهرت خلال الربع الثاني من القرن 20 ثلاثة اتجاهات رئيسية متفاعلة فيما بينها. ركزت في دراستها على تناول العلوم الاجتماعية ، بأسسها و منطقاتها و أهدافها ،وهذا ما أسهم بفعالية في إرساء دعائم علم الانثروبولوجيا المعاصر .
-1 الاتجاه التاريخي
هدا الاتجاه مقسم إلى قسمين الاتجاه التاريخي/الجزيئي و الاتجاه التاريخي النفسي ، وسنقدم في ما يلي عرضا لكل منهما .
أ-الاتجاه التاريخي /الجزيئي
اشرنا إلى أن الفكر التطوري للحضارات الإنسانية ، ساد خلال النصف الثاني من القرن 19،إنها بداية تبلور الدراسات الانثروبولوجيا وظهر إلى جانبه الاتجاه الانتشاري الذي يعتمد على أن نشأة الحضارة الإنسانية راجعة إلى مصدر واحد مجتمع واحد ، ومنه انتشرت إلى باقي العالم .وهدا الاتجاه موجود سواء في الانتروبولوجيا الاجتماعية أو الانثروبولوجيا الثقافية.نفي الأخيرة الاتجاه الانتشاري يتعلق بجمع العناصر الثقافية العناصر التكنولوجية و الفكرية ،بينما في الأولى يركز على العلاقات و النظم الاجتماعية داخل المجتمع.
ويمكن أن تشمل بعض العناصر الثقافية لكن من غير الممكن أن تشملها كلها.
و انطلاقا من هدا الاتجاه ظهرت في أوربا نظريتان مختلفتان حول التفسير الانتشاري لعناصر الثقافة.
النظرية الأولى هي النظرية الانتشارية التي تعتمد الأصل المركزي الواحد لثقافة الحضارة ، سادت هده النظرية في انجلترا و أرجعت نشأة الحضارة الإنسانية كلها إلى مصدر واحد،.ومنه انتشرت إلى المجتمعات الإنسانية الأخرى.
وكان من رواد هده النظرية عالم التشريح /اليوت سميث/وتلميذه "وليم بيري" اللذان راى أن الحضارة الإنسانية تعود بجذورها إلى صفات النيل في مصر القديمة مند حوالي 7 آلاف سنة و منه إلى الجماعات البشرية الأخرى.
النظرية الثانية هي النظرية الانتشارية التي تعتمد الأصل الثقافي الحضاري المتعدد المراكز وكان من دعاة هده النظرية فريق من العلماء الألمان والنمساويين وفي طليعتهم /فريتز جراينور/الذي عاش في الفترة ما بين (1875- 1934) و " ليم شميدت" الذي عاش في الفترة ما بين (1868-1959).
لقد رفض هدا الفريق فكرة المنشأ (المركز)الواحد للحضارة الإنسانية، لان هده الفكرة ضرب من الخيال أكثر من قربها إلى الأساس العلمي في العالم. وقد نشأ عن التلاقي بين هده الحضارات دوائر اتفاقية تفاعلت ببعض عمليات الانصهار والتشكيلات المختلفة.
و كان /ويسلر/ أول من استعمل الدائرة الثقافية بهدا المعنى و دلك خلال بحثه عن اتفاقات الهنود الحمر الأمريكيين ولازال تعريفه لهدا المفهوم ، رغم التعديل الذي شهده ، مفيدا في هدا المجال ادا أمكننا تجميع سكان (العالم الجديد الأصليين)، أي الهنود الأمريكيين فسنحصل على دوائر متعددة (طعام خزف منتوجات). و ادا أخدنا في محسوبنا العناصر جميعها في وقت واحد ،وحولنا الوحدات الاجتماعية أو القبلية يمكننا أن نجد جماعات محددة المعالم ،وهدا ما يعطينا الدوائر الاتفاقية أو تضيفنا للجماعات وفق عناصر ثقافتهم "هركسو فيتز" (1974 ص 124).
و الذي يقارب على هدا الاتجاه أن أصحابه لم يقدموا الدلائل على أماكن وجود تلك المراكز (المدروسة التاريخية –الثقافية )
أما بخصوص فكرة المراكز الحضارية الدوائر الثقافية ، نجد ان أصحاب المدرسة الأمريكية يعتبرون أن الملامح المميزة لثقافة ما وجدت أولا في مركز ثقافي جغرافي محدد ثم انتقلت إلى أماكن أخرى من العالم ، و هدا يعني أن أصحاب الاتجاه الانتشاري في أمريكا رفضوا أراء الأوروبيين بإمكانية التطور الحضاري المستقل، وان بعض الناس بطبيعتهم غير مبتكرين أو قادرين على القيام بعملية الابتكار و التطور .
و كان الأمريكي "فرانز بواز / الرائد الأول لهدا الاتجاه التاريخي الجزيئي قد عارض الفكرة القائلة بوجود طبيعة واحدة ثابتة للتطور الثقافي .و رأى أن أية ثقافة من الثقافات ،ليست إلا حصيلة نمو تاريخي معين،و لدلك يتوجب على الباحث الانثروبولوجي أن يوجه اهتمامه نحو دراسة تاريخ العناصر المكونة لكل ثقافة على حدى،قبل الوصول إلى تعليمات بشان الثقافة الإنسانية بكاملها. و قد أصر /بواز/على انه لكي تصبح الانثروبولوجيا علما،فلابد أن تعتمد في تكوين نظرياتها على المشاهدات و الحقائق الملموسة ،و ليس على التخمينات أو الفرضيات الحدسية . ومن هدا المنطلق استخدم "بواز" مصطلح المناطق الثقافية للإشارة إلى مجموعة من المناطق الجغرافية ذات النمط الثقافي الواحد.
ويشير مفهوم (المنطقة الثقافية) إلى طرائق السلوك الشائعة بين عدد من المجتمعات التي تتميز باشتراكها في عدد من مظاهر الثقافة نتيجة لدرجة معينة من الاتصال و التفاعل.
ب-الاتجاه التاريخي النفسي.
عندما ظهرت فكرة توسيع المفهوم التاريخي في دراسة الثقافات الإنسانية،بدأ الاتجاه التاريخي الجزيئي يتعدل و يأخذ مسارات جديدة.ودلك بفضل من تأثروا بنتائج علم النفس.ولا سيما "سيكموند فرويد"، الذي عاش ما بين ( 1852-1939) و تلامذته ،الدين رأو انه بالإمكان فهم الثقافة من خلال التاريخ،مع الاستعانة ببعض مفهومات علم النفس وطرائقه التحليلية.و هدا ما كان له اثر كبير في الاتجاه نحو الكشف عن الأنماط المختلفة للثقافات الإنسانية.
فقد رأت "اروث بيند" و رفاقها أن دراسة التاريخ بوقائعه و أحداثه،لا تكفي لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية،و دلك لان الظاهرة الثقافية بحد ذاتها مسالة معقدة و متشابكة العناصر،فهي تجمع بين التجربة الواقعية المكتسبة و التجربة السيكولوجية النفسية .وان أية سمة من السمات الثقافية،تضم مزيجا من النشاط الثقافي و النفسي بالنسبة لبيئة معيشة.
وعلى الرغم من دلك فان أية ثقافة لا تؤلف نظاما مغلقا أو قوالب جامدة، يجب أن تتطابق معها سلوكات أعضاء المجتمع جميعهم ، و يتبين من حقيقة الثقافة السيكولوجية،أن الثقافة بهده الصفة لا تستطيع أن تفعل شيئا لأنها ليست سوى مجموع سلوكات الأشخاص الدين يؤلفون مجتمعا خاصا (في وقت معين و مكان محدد) و أنماط عادات التفكير عند هؤلاء الأشخاص .
و لكن على الرغم من أن هؤلاء الأشخاص يلتزمون .عن طريق التعلم و الاعتياد بأنماط الجماعة التي ولدوا فيها و نشئوا فيها ، فإنهم يختلفون في ردود أفعالهم تجاه المواقف الحياتية التي يتعرضون لها معا .
كما أنهم يختلفون أيضا في مدى رغبة كل منهم في التغيير اد أن الثقافات كلها عرضة للتغيير.
2-الاتجاه البنائي الوظيفي
لقد نشا هدا الاتجاه مع ظهور الاتجاه الانتشاري الثقافي .كرد فعل عنيف على النظرية التطورية.وقد تميز الاتجاه البنائي بكونه ليس تطوريا وليس تاريخيا ،حيث ركز على دراسات الثقافات الإنسانية.
يعود الفضل في تبلور الاتجاه البنائي الوظيفي في الدراسات الانثروبولوجية الى أفكار العالمين البريطانيين (برونسلو.مالينوفسكي) بالإضافة الى "راد كليف براون" ،كل هؤلاء يدينون باتجاهاتهم النظرية،الى أفكار عالم الاجتماع "ايميل دوركايم"،الذي ركز اهتمامه على الطريقة التي تعمل بها المجتمعات الإنسانية و وظائف نظمها الاجتماعية ،وليس على تاريخ تطور هده المجتمعات والسمات العامة لثقافاتها.
ولعل " كلود ليفي ستراوس" ،هو الوحيد من بين الفرنسيين البنائيين الذي يستخدم كلمة بناء أو بنائية صراحة في عناوين كتبه ومقلاته .إن "كلود ليفي ستراوس" يعتبر بحق ميثاق (النزعة البنائية) .فعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت إليه،فلا يزال يؤمن بان البنيوية البنائية هي أكثر المناهج قدرة على تحليل المعلومات وفهم الاثنوغرافيا وتقريبها الى الادهان، وأنها في الوقت نفسه أفضل وسيلة يمكن بها تجاوز المعلومات والوقائع العيانية المشخصة .
فالاتجاه البنائي الوظيفي يعبر في جملته عن منهج دراسي تم التوصل إليه من خلال المقابلة (الموازنة) بين الجماعات الإنسانية (المجتمعات) والكائنات البشرية (الأفراد).ولم يعد استخدامه مقصورا على الأنثروبولوجيين .وإنما تناوله أيضا علماء الاجتماع بالفحص والتطبيق والتعديل على يد" تالكوت بارسونز ". "وجورج ميرتون."
لقد رأى "مالينوفسكي" أن الأفراد يمكنهم أن ينشؤا لأنفسهم ثقافة خاصة أو أسلوبا معينا في الحياة ،يضمن لهم إشباع حاجاتهم الأساسية البيولوجية والنفسية والاجتماعية ، ولدلك ربط الثقافة بجوانبها المختلفة المادية الروحية والاجتماعية بالاحتياجات الإنسانية.
فالاهتمام بالبنية كترابط منظم وخفي للعناصر الثقافية ، يساعد النموذج في تفسيره وراء العلاقات الاجتماعية .يوازيه اتجاه أخر اهتم بالوظائف بالمعنى الذي يحدده مالينوفسكي والدي تعني فيه الوظيفة تلبية حاجة من الحاجات ، ويكون فيها التحليل الوظيفي هو دلك الذي يسمح بتحديد العلاقة بين العمل الثقافي والحاجة عند الإنسان سواء كانت هده الحاجة أولية أو فرعية.
فالثقافة كيان محلي وظيفي متكامل .يماثل الكائن الحي ،بحيث لا يمكن فهم دور وظيفة كل عضو فيه،إلا من خلال معرفة علاقته بأعضاء الجسم الأخرى .وان دراسة هده الوضيعة بالتالي،تمكن الباحث الانثروبولوجي من اكتشاف ماهية كل عنصر و ضرورته ،في هدا الكيان المتكامل .
و عليه ، دعا مالينوفسكي إلى دراسة وظيفة كل عنصر ثقافي،عن طريق إعادة تكوين تاريخ نشأته،و في إطار علاقته مع العناصر الأخرى ،وهدا يقتضي دراسة الثقافات الإنسانية كل على حدى ،و كما هي في وضعها الراهن،و ليس كما كانت أو كيف تغيرت ،و بدلك يكون مالينوفسكي قد قدم مفهوم الوظيفة كأداة منهجية تمكن الباحث الانثروبولوجي من إجراء ملاحظاته بطريقة مركزة و متكاملة في أثناء وصفه للثقافة البدائية . أما براون فقد قام من جهة،بدور الرئيس في تدعيم أسس الاتجاه البنائي الوظيفي ،في الدراسات الانثروبولوجية،و دلك مع بداية القرن 20،موجها الانثروبولوجيا نحو الدراسات المتزامنة و ليس نحو التفسير البيولوجي للثقافة كما فعل مالينو فسكي.
خاتمة:
يمكننا القول في نهاية المطاف أن الانتروبولوجية الثقافية والاجتماعية لهما آليات و قوانين و هياكل تنظم ذاتها قصد دراسة الإنسان ،و اد يجوز الاعتراف بوجود طبيعة بشرية ،فلن تكون أبدا خاضعة خضوعا مطلقا لقوانين الطبيعة وحدها ، بل هي منظمة داخل علاقات و مؤسسات اجتماعية و انساق معرفية و أخلاقية ودينية و قانونية.
وستكون الانتروبولوجية الاجتماعية والثقافية بمثابة عودة الى هده الطبيعة البشرية المنظمة اجتماعيا و ثقافيا ، وهدا ما زاد من توسع هاتين المدرستين ن وزاد من شغف بحثنا في هدا الباب.
Ø قائمة المراجع
Ø الانتروبولوجية الاجتماعية و الثقافية :عبد الحق منصف
Ø قصة الانتروبولوجيا : حسين فهيم
Ø الثقافة :التفسير الانتروبولوجي –ادم كوبر
Ø المعرفة و صناعة المستقبل – احمد أبو زيد
Ø مدخل الى الانتروبولوجية الاجتماعية-قرار كريم
مراجع أخرى
حسين عبد الحميد أحمد رشوان: الأنثروبولوجيا في المجالين النظري والتطبيقي
السيد عبد العاطي السيد: أسس علم الاجتماع – دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية
عبد الهادي الجوهي: قاموس علم الاجتماع – المكتب الجامعي الحديث – الإسكندرية –
محمد الجوهري: الأنثروبولوجيا «أسس نظرية وتطبيقات عملية» - دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية – مصر 1996
عاطف وصفي: الأنثروبولوجيا الثقافية – دار النهضة العربية – بيروت –لبنان
بقلمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق