السبت، 30 أبريل 2016

قراءات مفاهيمية: التغير الاجتماعي



قراءات مفاهيمية: التغير الاجتماعي

   إن التغير الاجتماعي صفة لازمة لكل المجتمعات الإنسانية وقد تنبه المفكرون منذ القدم إلى ظاهرة التغير الاجتماعي واعتبرها بعضهم حقيقة الوجود أي أن كل موجود لابد أن يتغير بمعنى أن التغير لا الثبات هو الدال على وجود الموجود وقد عبر عن هذه الفكرة المفكر اليوناني هر قليطس في مقولته أن الفرد لا يستطيع أن يقول: أن أعبر النهر مرتين على اعتبار أن ذرات الماء التي لامست جسمه في المرة الأولى غيرها في المرة الثانية كما أن الشخص نفسه قد يتغير (مثلاً مزاجه، تكوينه الفسيولوجي) والتغير أكثر حركة وسرعة في مجتمع الحضر عنه في مجتمع الريف وقد يعود السبب في ذلك إلى قوة وسيطرة الضبط الاجتماعي في الريف عنه في الحضر فسكان الحضر أكثر استجابة للتغير الذي يطرأ على القيم والعادات والتقاليد من سكان الريف.
وقد عرف التغير الاجتماعي[1] بأنه تلك التحولات والتبدلات التي تحدث في التنظيم الاجتماعي أي التي تحدث في البناء الاجتماعي وفي وظائف هذا البناء المتعددة وهنا ينظر للتغير الاجتماعي على أنه جزء من موضوع أوسع وهو التغير الثقافي والذي يشمل كل التغيرات التي تحدث في كل فروع الثقافة بما في ذلك الفنون والعلوم والتكنولوجيا بالإضافة إلى تلك التغيرات التي تحدث في قواعد التنظيم الاجتماعي أساساً، ويقصد بتغير النظام الاجتماعي التغير في صور التنظيم والأدوار ومضمون الأدوار فالتغير مثلاً من نظام تعدد الزوجات إلى نظام وحدانية الزوج والزوجة من أمثلة التغيرات التي تطرأ في نظام المجتمع كما هنالك التغيرات التي تحدث في مراكز الأشخاص حيث يقومون بأدوار جديدة في النسق الاجتماعي.
كما عرف التغير بأنه الاختلاف ما بين الحالة الجديدة والحالة القديمة أو اختلاف الشيء عما كان عليه في فترة محددة من الزمن وحينما تضاف كلمة الاجتماعي التي تعني ما يتعلق بالمجتمع فيصبح التغير الاجتماعي هو ذلك التغير الذي يطرأ بداخل المجتمع أو التبدل أو التحول الذي يطرأ على جوانب المجتمع. وبمعنى آخر هو التحول الذي يطرأ على البناء الاجتماعي في فترة محددة من الزمن.
بناء على ذلك يشير مفهوم التغير الاجتماعي إلى التحولات التي تطرأ على بناء أي  مجتمع ، خلال مدى زمني معين ، ما يعني وجود قوى اجتماعية ، تسهم في حدوث التغير ، في اتجاه معين ، وبدرجات متفاوتة الشدة وهو قد يطال بناء المجتمع بأسره ، كما هو الحال في الثورات ، كما قد ينحصر في نظام معين كالأسرة و السياسة و الدين.
علماء الاجتماع في هذا الصدد يميلون إلى التمييز بين التغير الاجتماعي و التغير الثقافي ، فأولهما هو الذي يطرأ على العلاقات الاجتماعية ، بينما الثاني يعتري القيم و المعتقدات و المثل و الرموز الشائعة في المجتمع ، غير أن الواقع الفعلي ، يشير إلى صعوبة الفصل بين النمطين من التغير ،إذ التغير الثقافي يسببه أشخاص هم جزء من البناء الاجتماعي ، كما أن التغير الاجتماعي عبارة عن مكونات ثقافية بالغة الأهمية في تحديده ، ومع ذلك ، فانه في الإمكان عزل بعض التغيرات الثقافية ، كتلك التي تنتاب مجالات اللغة و الفن و الفلسفة ، عن السلوك الاجتماعي ، وقد ساعد المناخ الفكري السائد في علم الاجتماع على تبني علماءه مصطلح التغير الاجتماعي ، وذلك للإشارة إلى كل صور التباين التاريخي في المجتمعات الإنسانية ، ونجد من بين الإسهامات التي ساهمت في رواج هذا المصطلح نشر كتاب " التغير الاجتماعي" لمؤلفه وليام اوجبرن عام 1922، الذي أوضح فيه دور العوامل البيولوجية و الثقافية في حدوث التغير الاجتماعي ، كما طرح فرضية الهوة الثقافية ، إذ رأى أن التغيرات التي تطرأ على جزء من الثقافة اللامادية ، يطلق عليه اسم الثقافة التكيفية Adaptive culture ، و التي لا تواكب تمام تلك التي تطرأ على الثقافة المادية ، ومن ثم تصبح مصدر للضغوط و الصراعات ، وقد اختلف علماء الاجتماع في مفهوم التغير الاجتماعي، فرأى " فون فينز von weins eأن يستخدم بديلا محايدا من فكرة التقدم ، أو يستخدمه استخداما إحصائيا ، و يجعله بذلك تصورا كميا خالصا ،و قصره على التحولات التي تلم بعلاقات الإنسان بالإنسان ، وقال "جينزبيرج Ginsberg بان التغير الاجتماعي إنما هو تغير في البناء الاجتماعي، يمثل حجم المجتمع و تركيبة القوة فيه و التوازن بين أجزاءه أو نمط تنظيمه ،أما " روس Ross  ، فبدا له أن التغير الاجتماعي ما هو إلا التعديلات التي تحدث في المعاني و القيم ، التي تنتشر في المجتمع أو بين بعض جماعاته الفرعية.
في حين نجد البعض يعتبر أن التغير الاجتماعي جزء من التغير الثقافي والبناء الاجتماعي هو الذي يتعرض لهذا التغيير اجتماعياً كان أم ثقافياً وبما أن البناء الاجتماعي عبارة عن كل متكامل فإن أي تغيير يحدث في أي جزء من أجزائه يؤثر على بقية الأجزاء وذلك يعني أن التغير الاجتماعي يقود إلى تغير ثقافي كما أن التغير الثقافي يحمل تغير اجتماعي، إذاً فالمفهومان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً .
وبما أن البناء الاجتماعي هو المسرح الذي تجرى عليه أي تغيرات تطرأ على المجتمع فلابد من التعرض له كمدخل لدراسة التغير الاجتماعي والثقافي والتصور البسيط للتغير الاجتماعي[2] هو ذلك القالب الذي ينصب فيه كيان المجتمع بتكويناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وقد لفت مفهوم البناء الاجتماعي العلماء الأوائل في علم الاجتماع فنجد أن أوجست كومت قد استخدم مفهوم الاستقرار الاجتماعي Social Static في مقابل مفهوم الحركة الاجتماعية Social Dynamic حيث أصبح مفهوم الاستقرار الاجتماعي يعبر عنه بعد ذلك بالبناء الاجتماعي كما أن دوركايم استخدم نفس الفكرة في مفهوم التركيبات المورفولوجية بل وأن الفكرة تمتد إلى منتصف القرن الثامن عشر حيث تحدث مونتسكيو عن أن كل مظاهر الحياة الاجتماعية تؤلف لنا وحدة متماسكة منسجمة رغم ما بينها من تفاوت واختلاف وأن هنالك علاقات تساند واعتماد متبادلين بين هذه المظاهر المختلفة ففي كتابه (روح القوانين) 1748 يبين لنا أنه لا يمكن فهم القانون الدولي أو الدستوري أو الجنائي أو المدني في أي مجتمع من المجتمعات إلا في ضوء علاقتها كلها بالتركيب السياسي والحياة الاقتصادية والدين والمناخ وحجم السكان والعادات وقواعد العرف بل وفي أمزجة الناس.
وقد ظهر المفهوم بوضوح وبشكل علم[3]في كتابات العالم البريطاني هربرت سبنسر في حديثه عن المماثلة العضوية التي يماثل فيها بين المجتمع والكائن الحي وقد ساعدت هذه المماثلة في إبراز فكرتي البناء والوظيفة فقد كان سبنسر يؤكد ضرورة وجود التساند الوظيفي والاعتماد المتبادل بين نظم المجتمع في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي وأن الغاية التي يهدف إليها هي إيجاد حالة من التوازن تساعد المجتمع على الاستمرار في الوجود.
وكل هذا يعبر عنه التغير في نظم المجتمع (اقتصادية، دينية، سياسية.. الخ) وقد يكون هذا التغير تطوري أو تقدمي أو إلي الخلف والمماثلة التي أقامها هربرت سبنسر بين المجتمع والكائن الحي لعبت دوراً كبيراً في إمكانية تصور مفهوم البناء الاجتماعي، فالكائن العضوي الحيواني هو مجموعة من الخلايا والسائل بين الأنسجة الخلوية مرتبة بالنسبة لبعضها البعض كنسق متكامل من الجزئيات المركبة، ونظام العلاقات الذي يربط بين هذه الوحدات هو ما يسمى بالبناء العضوي. ويحتفظ الكائن العضوي على مدى حياته باستمرار معين للبناء بالرغم من أنه لا يحتفظ بمطابقة كاملة للأجزاء المشكلة له فهو يفقد بعض جزئياته المقدمة بالنفي والإفراز ويكتسب أخرى بالتنفس وعملية الامتصاص الغذائي، لكن الترتيب البنائي لوحداته المكونة له يبقى متماثلاً. والعملية التي يعبر عنها باستمرار البناء للكائن العضوي تسمى الحياة والتي تتكون من أنشطة وتفاعلات الوحدات المكونة للكائن العضوي تفهم على أنها الأداء الوظيفي لبنائه.
وعلى هذا إذا انتقلنا من الحياة العضوية إلى الحياة الاجتماعية ودرسنا مجتمعاً محلياً مثل قبيلة أفريقية أو أسترالية فإننا نستطيع التعرف على البناء الاجتماعي لها أو أن أفرادها هم الوحدات الأساسية في هذا البناء مرتبطون بواسطة مجموعة محددة من العلاقات الاجتماعية في كل متكامل. واستمرار البناء لا ينقطع بالتغيرات في الوحدات حيث أن أفرادها قد يتركون المجتمع بالموت وأن آخرين قد يدخلون فيه. ويحافظ على استمرار البناء بواسطة عملية الحياة الاجتماعية التي تتكون من الأنشطة والتفاعلات لأفراد الأسر والجماعات المنظمة التي يندمجون فيها وتعرف والحياة الاجتماعية فكرة احتواء البناء على مجموعة من العلاقات بين كيانات متحدة، واستمرار البناء يتم بالحفاظ في نظم المجتمع (اقتصادية، سياسية، دينية) وقد يكون هذا التغير تطوري أو تقدمي أو تغير للخلف. وقد وصلت الفكرة إلى ذروتها في تفكير العالم إميل دوركايم في معالجته لموضوع الحقائق الاجتماعية Social Facts والتي تمتاز بعموميتها وقدرتها على الانتقال من جيل لآخر وفرض سيطرتها على المجتمع.
وقد عرف رادكليف براون البناء الاجتماعي[4] بأنه شبكة العلاقات الاجتماعية العقلية التي تقوم بين سائر الأشخاص في المجتمع وقد اعتبر براون الأسرة وحدة أولية للبناء الاجتماعي إلا أن ايفا نز برتشارد يختلف معه في أن الأسرة لا يمكن الاعتماد عليها كوحدة ثابتة بدرجة عالية من الثبات والتركيب والتي تتألف من مجموعة من الأشخاص يعتبرون أنفسهم وحدة قائمة بذاتها وترتبط بسائر العلاقات الأخرى في علاقات بنائية.
كما أن ايفا نز برتشارد يختلف مع براون حول مفهوم البناء الاجتماعي فبروان يرى أن الأنساق الاجتماعية أنساق طبيعية يمكن معالجتها بتطبيق مناهج العلوم الإنسانية باعتبارها فرعاً من الطبيعيات في حين أن ايفانزبرتشارد يرى أن الأنساق باعتبارها فرعاً من الإنسانيات. إذاً فالبناء الاجتماعي عبارة عن فرع بين مجردات  Aconsistency of Abstractions .
إذا انطلاقا مما سبق يمكن تعريف التغير الاجتماعي بأنه كل تحول في النظم و الأجهزة الاجتماعية ، من الناحيتين البنائية و الوظيفية ، خلال فترة زمنية محددة ، وهذا التعريف يوافق ما ذهب إليه " دافيز Davis" أن التغير الاجتماعي هو التحول في التنظيم الاجتماعي القائم سواء في تركيبه و بنيانه أو في وظائفه .


[1] عون الشريف قاسم – حلفاية الملوك التاريخ والبشر- دار جامعة امدرمان الاسلامية للطباعة والنشر الطبعة الاولي 1988م ص 74.

[2] صوميل باسليوس ، علم الاجتماع الحضري، دار المعارف ، القاهرة ، 1974م، ص 15.

[3] أحمد أبوزيد- البناء الاجتماعي – مدخل لدراسة المجتمع- الطبعة الثانية- الهيئة العامة المصرية للكتاب 1982-ص9.

[4] محمد الغريب عبد الكريم- السوسولوجيا الوظيفية- المكتب الجامعي الحديث-محطة الرمان الاسكندرية 1998م -ص162



قراءة مفاهيمية في مفهوم الجمعية والعمل الجمعوي

عبدالعالي الصغيري
طالب باحث في علم الاجتماع والانتروبولوجيا
30/04/2016
لا بد في البداية أن نشير إلى انه ليس هناك تعريف ثابت لمفهوم العمل الجمعوي ،إذ لا ينبغي أن تغرينا إشكالية هذا التساءل لننساق وراء البحث عن تعريف ثابت و نهائي للعمل الجمعوي على اعتبار أن تحديد المفاهيم يأخذ عادة مظهرين اثنين :
 1- إما أن يتعلق الأمر بظواهر ثابتة في الزمان و المكان و بالتالي تكون قابلة لان تشخص كما هي و ينتج عن ذلك التشخيص تعريف اقرب لان يكون نهائيا كما هو الشأن في تعريف بعض الظواهر الطبيعية أو بعض تمظهرات النمو عند الإنسان .و إزاء تعريفات من هذا النوع تسهل عملية ضبط العناصر التي ينبني عليها التعريف ذاته بصورة تسمح في النهاية بإمكانية تعميم ذلك التعريف في الزمان و المكان .
2- وإما أن يتعلق الأمر بظواهر تتسم بعدم ثباتها و بحركيتها المتجددة باستمرار ،و بالإيقاع السريع الذي يطرأ عليها بين الفينة و الأخرى ، مما يجعل مسألة إعطاء تعريف نهائي و محدد شيء متعذرا إن لم نقل مستحيلا من الناحية المنهجية على الأقل ، و تتعلق هذه الملاحظة أكثر بالظواهر المرتبطة بالسلوك الإنساني في صيرورته الإنتاجية و الانجازية اليومية[1]، مما يجعل التعريف في هذه الحالة يراهن على ضبط النقط التي تلتقي فيها و تتقاطع عندها مراحل و أشكال ممارسة ذلك السلوك ذاته .
إن مفهوم العمل الجمعوي يندرج ضمن المظهر الثاني ، مما يعني أن هذا العمل في عمقه يحيل على وقائع مجردة لا يمكن تمثيلها نظريا إلا بالاستناد إلى وقائع تطبيقية و عملية ، بحيث لا يمكن أن نتحدث عن العمل الجمعوي كمعطى جاهز و مجرد ، بل نكون مضطرين للحديث عنه كتجربة ملموسة ، أي تتغير من زمان لأخر ، و من مكان إلى آخر[2]، من خلال ما سبق فان مقاربة المفهوم وقراءته ينبغي أن تنطلق من مختلف ممارساته في الواقع ، مما يعطي للتعريف قوته الإجرائية على مستوى التشخيص إذ الانطلاق من المفهوم الثابت الجاهز و النهائي إلى حيز الممارسة المتجددة باستمرار، فيكون الحديث عن تجارب و ليس عن ثوابت من هذا المنظور ، فان العمل الجمعوي لا ينفلت من أن يكون ممارسة اجتماعية للثقافي و تكيفا للاجتماعي ، أي انه في جوهره ظاهرة اجتماعية ثقافية تتقاطع فيه مكونات الشخصية الممارسة له من حيث حمولتها المعرفية و قوتها الوجدانية الدافعة ، ومنحدرات انتمائها لاختيار هذا العمل دون الآخر ، وهذا التقاطع بين المعرفة و الوجدان و الانتماء يجعل إذن الممارسة الجمعوية مدخل للفعل في الواقع ،ليس لتغيير بنياه الأساسية الكبرى ( حتى لا نعطي للجمعيات دور الفعل السياسي و الاجتماعي قوى الفعل السياسي و الاجتماعي المهيأ لهذا الفعل نظريا و تاريخيا ) و إنما التغير على مستوى أشكال التفكير فيه و طريقة تعريف المعرفة المكتسبة لبناء النموذج المرغوب فيه و تأطير الأداة البشرية المزمع تأهيلها لتحقيق ذلك البناء أي بمعنى آخر أن العمل الجمعوي ليس في النهاية سوى منتوج تنظيمي و ثقافي هادف من خلال ممارسات مجسدة إلى اكتساب المنخرط فيه وعيا محددا إزاء القضايا المطروحة بإلحاح في السياق الاجتماعي و التاريخي الذي يمارس فيه ذلك العمل إذن ففي موضوع العمل الجمعوي نجد الممارسة هي التي تحدد المفهوم و ليس العكس.
 إن العمل الجمعوي في تحديداته القانونية و النفسية و الاجتماعية يلوح كخطاب و ممارسة تعتمل في ظل سجل ثقافي أو حقل مجتمعي، بشرط وجود أفراد و جماعات تلتئم من أجل مخطط إنجازي يروم إحداث تغييرات ما في سلم القيم و المواقف و الاتجاهات و الممارسات و السياسات.
فأقوى الأسئلة الجمعوية التي ما زال تحتاج إلى المزيد من النقاش و التوضيح تهم المجالات التالية :[3]
       سؤال الهوية /     سؤال الدور /   سؤال العلاقة /   سؤال المقاربة
فالعمل الجمعوي يعد ملمحا من ملامح الفعل المدني و المواطناتي و الذي يجد أسسه النظرية في أدبيات المجتمع المدني، و تحديدا مع هيغل و غرامشي و قبلا مع آل العقد الاجتماعي. لكن هل ما يتراءى أمامنا زمن هياكل جمعوية وتنظيمات مدنية يعبر حقيقة عن المعنى المفترض للمجتمع المدني؟ وهل ما يتناهى إلينا من حركيات وفعاليات يعكس المفهوم النبيل للمجتمع المدني الذي نحته المثقفون العضويون خلال عصر النهضة والأنوار؟

مفهوم الجمعية :

الجمعية مؤسسة ثقافية  وإطار قانوني لتكافل الطاقات و الجهود من اجل تحقيق أهداف محددة حسب طبيعة الجمعية، و العمل الجمعي شكل من أشكال العمل العام الموجه لفئات الجماهير الواسعة و ذلك حسب الهدف و المجال الذي حدد لهذا العمل، و يعرف الفصل الأول من قانون الحريات العامة بالمغرب الجمعية بكونها: "اتفاق لتحقيق تعاون مستمر بين شخصين أو عدة أشخاص لاستخدام معلوماتهم أو نشاطهم لغاية غير توزيع الأرباح فيما بينهم"  .
و حسب نوعية مخاطبيها و انطلاقا من مجالها تتحدد طبيعة الجمعية: فقد تكون الجمعية جمعية ثقافية، أو سياسية، أو اجتماعية خيرية، أو اجتماعية مهنية (النقابات)، أو فنية أو مسرحية أو رياضية، و قد تخاطب تبعا لمجالها" فئة محدودة من الناس فتوجه للنخبة أو لفئة معينة ، و قد تكون جماهيرية واسعة، و قد تخاطب المثقفين خاصة، كما أنها قد تتوجه نحو الفئة الأمية، و قد ترتبط بفئات عصرية مختلفة: الأطفال ، الكهول، الشباب، الشيوخ، وقد تختار فئة عمرية دون أخرى، و قد تختار الموسرين، كما قد يكون العكس تماما.و انطلاقا مما سبق ذكره، فالعمل الجمعوي هو كل إطار ينضوي تحته مجموعة من العاملين من اجل تحقيق هدف مشترك، هو بالأساس عمل تربوي يهدف إلى المساهمة في بناء الإنسان، لذلك فهو يضم كل الأنشطة الهادفة على غرس المعاني و القيم المنبثقة من عقيدة العاملين فيه على حساب المستويات الفكرية و التصويرية و الوجدانية و السلوكية و هو من هذا المنطلق يشتمل على العمل السياسي (الأحزاب، و النقابات، و المنظمات) و العمل الثقافي (الجمعيات، و النوادي الرياضية…) فكل من العمل السياسي و العمل الثقافي يهدف إلى تحقيق نمط من الحياة لكن وسائلهما في تحقيق هذا المسعى مختلفة فالعمل السياسي يعتبر اجتماعا بشريا مناضلا هادفا إلى امتلاك السلطة من اجل تطبيق برامج اجتماعية و اقتصادية و سياسية، و بناء مؤسسات تضمن أسلوبا معينا للحياة، أما العمل الثقافي فيسعى إلى التكوين المباشر للإنسان من خلال برامج تربوية/ثقافية في حدود ما تسمح به إمكانيات الجمعية كإطار قانوني و ليس من خلال امتلاك الأدوات التنفيذية (السلطة ) و هذا لا يعني انفصال السياسي من الثقافي انفصالا تاما، بل هناك تداخل في ما بين السياسي و الثقافي.
ويمكن اعتبار الجمعية من الناحية الاجتماعية على أنها جماعة من الأفراد ، انبثقت عنهم رغبة للقيام بنشاط معين كان موجودا من قبل أو غير موجود لفائدتهم أو لفائدة مجتمعهم في إطار من التعاون والتطوع وممارسة الأنشطة والعلاقات التي تقوم بها الجمعية تربويا وثقافيا وفنيا واجتماعيا ورياضيا، وهذا يؤدي إلى خلق ديناميكية ونشاط بين مجموعة من الأفراد، فوجود تنظيم يعني وجود أفراد تربطهم علاقات ويقومون بأنشطة تحقق الأهداف المسطرة في القانون الأساسي للجمعية وهو الذي يضمن الاستمرار والاستقرار خلال مدة صلاحية المكتب المسير. ثم الفعالية التي تشير إلى القدرة على التنظيم والهيكلة وتحقيق الأهداف. فالعمل الجمعوي عمل هادف وأهدافه محدودة، لا يمكن تغييرها إلا بمقتضى شروط معينة، وتساعد الفرد على أن يعيش مع الجماعة ويتعاطف معها ويشارك في جميع الأنشطة من أجل الحصول على المنفعة وتحقيق المصلحة العامة .
         فالجمعية هي "كيان مستقل عن السلطات العمومية تشكل مؤسسة جوهرية في المجتمع الديمقراطي، لا غنى عنها لتوسيع مساهمة الأفراد في مسلسل التنمية."   و يعتبرها كل من Jean-Louis Laville وRenaud Sainsaulieu أنها تنم على "تجمع العديد من الأشخاص، الذين قرروا الاجتماع من أجل التعاون لحل مشكل ما أو الاستجابة لحاجة"[4] فما يركز عليه هذين الباحثين في  سوسيولوجيا الجمعيات في دراستهم للجمعية هو مسألة التعاون الإرادي التطوعي و الاشتغال بطريقة حرة، و أن فكرة التعاون تستند إلى ما يطلق عليه الفعل المنظم أو الفعل الجمعي Action collective.
إن الفعل الجمعوي اليوم أضحى مقترنا بالفعل التنموي والحديث عن أي إستراتيجية تنموية إلا ويتم استذكار الدور الذي يمكن أن تؤديه الجمعيات، فالبعض يرى فيها  أنها بمثابة  "فاعل اجتماعي والفاعل في قلب هذا الإطار التحليلي الذي يقترحه Grozier  و Friedberg فهو قد يكون أفراد أو مجموعات يمتلك قدرات تمكنه بهذا القدر أو ذاك على تحديد أهدافه له موارد قادر على تعبئتها من أجل تحقيق تلك الأهداف ]...[ نقول أنه يتبع إستراتيجية عقلانية لتحقيق أهداف معينة، بدون الانحياز إلى الفردانية المنهجية التي ترى في الإنسان كائن عقلاني بشكل كامل ومع تجاوز للواقعية الشمولية le réalisme totalitaire التي ترى في الأفراد متحكم فيهم من طرف أشكال من المنطق الاجتماعي التي تتجاوزهم."[5] فالجمعيات ينظر إليها كفاعل اجتماعي acteur social تنخرط في شبكة من العلاقات الاجتماعية، و أن  دورها مكمل لعمل الدولة في تنفيذ السياسات الاجتماعية لمحاربة الإقصاء والتهميش والفقر وتجسيد المشاركة الفعالة لجميع فئات المجتمع وبلورة البرنامج والمشاريع، و أنها تعتبر قوة اقتراحية مهمة في أي عمل يتوخى معالجة المسألة الاجتماعية، و هي بمثابة الوسيط بين الدولة وأجهزتها الإدارية وبين السكان، وتلعب كذلك دورا في تأطير المواطنين وتأهيل النخب المحلية ،  بما هي فئة أو طبقة تقوم بدور الوسيط في عملية التكوين والتفكير وتنوب عن الباقين.
         يرى  عزيز الحبابي في الجمعية أنها "تعاقد بين شخصين في إطار تجمع أدبي أو سياسي أو اقتصادي، وتعني طائفة تتألف من أعضاء لعرض فكرة مشتركة."  وارتبط ظهور الجمعيات بالانتقال من انتظام اجتماعي أساسه العصب إلى انتظام اجتماعي أساسه المصلحة العامة المشتركة، ولهذا فإن انخراط الفرد في الجمعية فهو انخراط من أجل المصلحة العامة وليس انخراطا هدفه الربح والمصلحة الشخصية.
حسب محمد عاطف غيت، مفهوم الجمعية/ الرابطة Associassions  على "أنها جماعة منظمة تقوم بهدف متخصص و محدد، وفق قواعد قائمة، و نسق للقيادة، و بعض المصالح المشتركة بين أعضاءها. وتتميز العلاقات فيها بأنها غير شخصية و ثانوية. و تختلف الجمعية عن الجماعات الرسمية في طبيعة أهدافها محددة بدقة وبصورة متخصصة.
        أما الأستاذ أحمد شراك  يعتبر أن "الجمعية هي انتظام اجتماعي لمجموعة من الناس في إطار قانوني وهذا الإطار يكون أساسه المصلحة وهذه المصلحة تضيق وتتسع حسب المنخرطين." ودراسة الحركة الجمعوية تقودنا للحديث عن الفاعلين الجمعوي، و الذي يتحدد في ذلك "الإنسان القادر على الفعل الجمعوي انطلاقا من التطوع والاقتناع بجدوى المجتمع المدني."[6] و أن الفعل الجمعوي يقتضي نوعا من الصبر والمقاومة ونكران الذات والدينامية والحركية بعيدا عن النشاط البيروقراطي، فما يميز الفاعل الجمعوي هو روح المبادرة على الإنجاز وهو يتقاطع مع الفاعل الحزبي والسياسي والنقابي. ويمكن التمييز بين الوظائف التالية التي يقوم بها الفاعل الجمعوي.
·                                        الوظيفة التحسيسية: أي أن الفاعل الجمعوي يعمل على تحسيس المجتمع بأهمية قضية ما، وأهمية دورها وأهمية جدواها وانعكاسها على حياة الناس، ومنها جمعيات البيئة مثلا والتي تعمل على تحسيس الساكنة على دور البيئة وانعكاساتها اليومية على الفرد والعلاقات الممكنة بين البيئة والحياة.
      انطلاقا مما سبق فالجمعية هي إحدى القنوات التي تساهم في نمو الفرد اجتماعيا بإكسابه نضجا اجتماعيا، يساعده على التكيف و الاندماج في محيطه و مجتمعه. بل انه يصبح أكثر فاعلية و تأطيرا في المحيط بفضل الخبرات و المهارات التي يكتسبها من خلال نفوذه على العمل الجماعي المنظم. و تحمل المسئولية في المشاركة الواعية و الفعالة، التي تبين عن النضج  للفرد و للجماعة، مما يؤدي إلى خلق و بروز قوة اجتماعية كقوة للفعل الديمقراطي و التأطير الاجتماعي من أجل التغيير الشخصي و الجماعي الهادف إلى خلق مفهوم جديد للمواطنة. أي ي بروز مجتمع مدني حقيقي و فعال.[7] و بتعبير ج.ل.لفيل J.L. LA VILLE فالجمعية " تقابل قانونيا بنية شكلية مستقلة، أي معلنة رسميا و غير خاضعة لمراقبة كيان خارجي، متميزة عن الدولة و الجماعات الترابية. مبدئيا غير تجارية و لا توزع أرباحا على أعضاءها و مسيريها و تتضمن عنصر المشاركة الإرادية، يمكن تناولها سوسيولوجيا كفضاء يؤمن الانتقال من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام، عبر لقاء بين شخصي.[8]  وعليه فإن الجمعية إذن ركيزة أساسية لتحقيق التقدم و الازدهار و تفعيل التنمية الإنسانية المستدامة الحقيقية. كما أنها تجسيد فعلي و مطهر من مظاهر الديمقراطية الحديثة، التي ترتكز على الحرية و المساواة و الكرامة و العدالة و الإنسانية و الإيمان بحقوق الإنسان.



[1] Linnovation social /émergence et effets sur la transformatioun des sociétés /sous la direction de juan-lhis klein harrisson

[2] العمل الجمعوي بالمغرب واقع و افاق ، محمد الزيري / الحوار المتمدن –العدد 1472-2006/2/25/07:47

[3] العمل الجمعوي و التنمية المحلية ، عبد الرحيم العطري ، في 9 يوليو 2008 ، المجلة الالكترونية الحوار المتمدن :www.alhewar.org

[4] محسن محمد الرحوتي  : "تدبير المجال الحضري ومساهمة جمعيات الأحياء بالمغرب" (جمعيات الأحياء العتيقة بفاس نموذجا) أطروحة لنيل الدكتوراه في علم الاجتماع، تحت إشراف الأستاذ عبد السلام فراعي السنة الجامعية  2002-2000 كلية الأداب والعلوم الإنسانية فاس ص 89 .

[5]   المرجع السابق
[6] مصطفى كاكا:  مقاربة أولية لدراسة الظاهرة الجمعوية بالمغرب، جريدة النشرة، عدد97، مارس_ 1997، ص: 2

[7] المرجع السابق.

[8] Jean louis la ville "l'association une liberté propre à la démocratie' in sociologie de l'association. 65_66  نقلا عن، حبيبة حفصاوي .