قراءات مفاهيمية: التغير الاجتماعي
إن التغير الاجتماعي صفة لازمة لكل
المجتمعات الإنسانية وقد تنبه المفكرون منذ القدم إلى ظاهرة التغير الاجتماعي
واعتبرها بعضهم حقيقة الوجود أي أن كل موجود لابد أن يتغير بمعنى أن التغير لا
الثبات هو الدال على وجود الموجود وقد عبر عن هذه الفكرة المفكر اليوناني هر قليطس
في مقولته أن الفرد لا يستطيع أن يقول: أن أعبر النهر مرتين على اعتبار أن ذرات
الماء التي لامست جسمه في المرة الأولى غيرها في المرة الثانية كما أن الشخص نفسه
قد يتغير (مثلاً مزاجه، تكوينه الفسيولوجي) والتغير أكثر حركة وسرعة في مجتمع
الحضر عنه في مجتمع الريف وقد يعود السبب في ذلك إلى قوة وسيطرة الضبط الاجتماعي
في الريف عنه في الحضر فسكان الحضر أكثر استجابة للتغير الذي يطرأ على القيم والعادات
والتقاليد من سكان الريف.
وقد عرف التغير الاجتماعي[1] بأنه تلك التحولات والتبدلات التي تحدث في
التنظيم الاجتماعي أي التي تحدث في البناء الاجتماعي وفي وظائف هذا البناء
المتعددة وهنا ينظر للتغير الاجتماعي على أنه جزء من موضوع أوسع وهو التغير
الثقافي والذي يشمل كل التغيرات التي تحدث في كل فروع الثقافة بما في ذلك الفنون
والعلوم والتكنولوجيا بالإضافة إلى تلك التغيرات التي تحدث في قواعد التنظيم
الاجتماعي أساساً، ويقصد بتغير النظام الاجتماعي التغير في صور التنظيم والأدوار
ومضمون الأدوار فالتغير مثلاً من نظام تعدد الزوجات إلى نظام وحدانية الزوج
والزوجة من أمثلة التغيرات التي تطرأ في نظام المجتمع كما هنالك التغيرات التي
تحدث في مراكز الأشخاص حيث يقومون بأدوار جديدة في النسق الاجتماعي.
كما عرف التغير بأنه الاختلاف ما بين الحالة الجديدة والحالة القديمة أو
اختلاف الشيء عما كان عليه في فترة محددة من الزمن وحينما تضاف كلمة الاجتماعي
التي تعني ما يتعلق بالمجتمع فيصبح التغير الاجتماعي هو ذلك التغير الذي يطرأ
بداخل المجتمع أو التبدل أو التحول الذي يطرأ على جوانب المجتمع. وبمعنى آخر هو
التحول الذي يطرأ على البناء الاجتماعي في فترة محددة من الزمن.
بناء على ذلك
يشير مفهوم التغير الاجتماعي إلى التحولات التي تطرأ على بناء أي مجتمع ، خلال مدى زمني معين ، ما يعني وجود قوى
اجتماعية ، تسهم في حدوث التغير ، في اتجاه معين ، وبدرجات متفاوتة الشدة وهو قد
يطال بناء المجتمع بأسره ، كما هو الحال في الثورات ، كما قد ينحصر في نظام معين
كالأسرة و السياسة و الدين.
علماء الاجتماع
في هذا الصدد يميلون إلى التمييز بين التغير الاجتماعي و التغير الثقافي ، فأولهما
هو الذي يطرأ على العلاقات الاجتماعية ، بينما الثاني يعتري القيم و المعتقدات و
المثل و الرموز الشائعة في المجتمع ، غير أن الواقع الفعلي ، يشير إلى صعوبة الفصل
بين النمطين من التغير ،إذ التغير الثقافي يسببه أشخاص هم جزء من البناء الاجتماعي
، كما أن التغير الاجتماعي عبارة عن مكونات ثقافية بالغة الأهمية في تحديده ، ومع
ذلك ، فانه في الإمكان عزل بعض التغيرات الثقافية ، كتلك التي تنتاب مجالات اللغة
و الفن و الفلسفة ، عن السلوك الاجتماعي ، وقد ساعد المناخ الفكري السائد في علم
الاجتماع على تبني علماءه مصطلح التغير الاجتماعي ، وذلك للإشارة إلى كل صور
التباين التاريخي في المجتمعات الإنسانية ، ونجد من بين الإسهامات التي ساهمت في
رواج هذا المصطلح نشر كتاب " التغير الاجتماعي" لمؤلفه وليام اوجبرن عام
1922، الذي أوضح فيه دور العوامل البيولوجية و الثقافية في حدوث التغير الاجتماعي
، كما طرح فرضية الهوة الثقافية ، إذ رأى أن التغيرات التي تطرأ على جزء من
الثقافة اللامادية ، يطلق عليه اسم الثقافة التكيفية Adaptive culture ، و التي لا تواكب تمام تلك التي تطرأ على الثقافة المادية ، ومن
ثم تصبح مصدر للضغوط و الصراعات ، وقد اختلف علماء الاجتماع في مفهوم التغير
الاجتماعي، فرأى " فون فينز von weins eأن يستخدم بديلا محايدا من فكرة التقدم ، أو يستخدمه استخداما إحصائيا ، و
يجعله بذلك تصورا كميا خالصا ،و قصره على التحولات التي تلم بعلاقات الإنسان
بالإنسان ، وقال "جينزبيرج Ginsberg بان التغير الاجتماعي إنما هو
تغير في البناء الاجتماعي، يمثل حجم المجتمع و تركيبة القوة فيه و التوازن بين
أجزاءه أو نمط تنظيمه ،أما " روس Ross ، فبدا له أن التغير الاجتماعي ما هو إلا
التعديلات التي تحدث في المعاني و القيم ، التي تنتشر في المجتمع أو بين بعض
جماعاته الفرعية.
في حين نجد
البعض يعتبر أن التغير
الاجتماعي جزء من التغير الثقافي والبناء الاجتماعي هو الذي يتعرض لهذا التغيير
اجتماعياً كان أم ثقافياً وبما أن البناء الاجتماعي عبارة عن كل متكامل فإن أي
تغيير يحدث في أي جزء من أجزائه يؤثر على بقية الأجزاء وذلك يعني أن التغير
الاجتماعي يقود إلى تغير ثقافي كما أن التغير الثقافي يحمل تغير اجتماعي، إذاً
فالمفهومان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً .
وبما أن البناء الاجتماعي هو المسرح الذي تجرى عليه أي تغيرات تطرأ على
المجتمع فلابد من التعرض له كمدخل لدراسة التغير الاجتماعي والثقافي والتصور
البسيط للتغير الاجتماعي[2] هو ذلك القالب الذي ينصب فيه كيان
المجتمع بتكويناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وقد لفت مفهوم البناء
الاجتماعي العلماء الأوائل في علم الاجتماع فنجد أن أوجست كومت قد استخدم مفهوم
الاستقرار الاجتماعي Social
Static في مقابل مفهوم الحركة الاجتماعية Social Dynamic حيث أصبح مفهوم
الاستقرار الاجتماعي يعبر عنه بعد ذلك بالبناء الاجتماعي كما أن دوركايم استخدم
نفس الفكرة في مفهوم التركيبات المورفولوجية بل وأن الفكرة تمتد إلى منتصف القرن
الثامن عشر حيث تحدث مونتسكيو عن أن كل مظاهر الحياة الاجتماعية تؤلف لنا وحدة
متماسكة منسجمة رغم ما بينها من تفاوت واختلاف وأن هنالك علاقات تساند واعتماد
متبادلين بين هذه المظاهر المختلفة ففي كتابه (روح القوانين) 1748 يبين
لنا أنه لا يمكن فهم القانون الدولي أو الدستوري أو الجنائي أو المدني في أي مجتمع
من المجتمعات إلا في ضوء علاقتها كلها بالتركيب السياسي والحياة الاقتصادية والدين
والمناخ وحجم السكان والعادات وقواعد العرف بل وفي أمزجة الناس.
وقد ظهر المفهوم بوضوح وبشكل علم[3]في كتابات العالم البريطاني هربرت سبنسر في
حديثه عن المماثلة العضوية التي يماثل فيها بين المجتمع والكائن الحي وقد ساعدت
هذه المماثلة في إبراز فكرتي البناء والوظيفة فقد كان سبنسر يؤكد ضرورة وجود
التساند الوظيفي والاعتماد المتبادل بين نظم المجتمع في كل مرحلة من مراحل التطور
الاجتماعي وأن الغاية التي يهدف إليها هي إيجاد حالة من التوازن تساعد المجتمع على
الاستمرار في الوجود.
وكل هذا يعبر عنه التغير في نظم المجتمع (اقتصادية، دينية، سياسية.. الخ) وقد
يكون هذا التغير تطوري أو تقدمي أو إلي الخلف والمماثلة التي أقامها هربرت سبنسر
بين المجتمع والكائن الحي لعبت دوراً كبيراً في إمكانية تصور مفهوم البناء
الاجتماعي، فالكائن العضوي الحيواني هو مجموعة من الخلايا والسائل بين الأنسجة
الخلوية مرتبة بالنسبة لبعضها البعض كنسق متكامل من الجزئيات المركبة، ونظام
العلاقات الذي يربط بين هذه الوحدات هو ما يسمى بالبناء العضوي. ويحتفظ الكائن
العضوي على مدى حياته باستمرار معين للبناء بالرغم من أنه لا يحتفظ بمطابقة كاملة
للأجزاء المشكلة له فهو يفقد بعض جزئياته المقدمة بالنفي والإفراز ويكتسب أخرى
بالتنفس وعملية الامتصاص الغذائي، لكن الترتيب البنائي لوحداته المكونة له يبقى
متماثلاً. والعملية التي يعبر عنها باستمرار البناء للكائن العضوي تسمى الحياة
والتي تتكون من أنشطة وتفاعلات الوحدات المكونة للكائن العضوي تفهم على أنها
الأداء الوظيفي لبنائه.
وعلى هذا إذا انتقلنا من الحياة العضوية إلى الحياة الاجتماعية ودرسنا مجتمعاً
محلياً مثل قبيلة أفريقية أو أسترالية فإننا نستطيع التعرف على البناء الاجتماعي
لها أو أن أفرادها هم الوحدات الأساسية في هذا البناء مرتبطون بواسطة مجموعة محددة
من العلاقات الاجتماعية في كل متكامل. واستمرار البناء لا ينقطع بالتغيرات في
الوحدات حيث أن أفرادها قد يتركون المجتمع بالموت وأن آخرين قد يدخلون فيه. ويحافظ
على استمرار البناء بواسطة عملية الحياة الاجتماعية التي تتكون من الأنشطة
والتفاعلات لأفراد الأسر والجماعات المنظمة التي يندمجون فيها وتعرف والحياة
الاجتماعية فكرة احتواء البناء على مجموعة من العلاقات بين كيانات متحدة، واستمرار
البناء يتم بالحفاظ في نظم المجتمع (اقتصادية، سياسية، دينية) وقد يكون هذا التغير
تطوري أو تقدمي أو تغير للخلف. وقد وصلت الفكرة إلى ذروتها في تفكير العالم إميل
دوركايم في معالجته لموضوع الحقائق الاجتماعية Social Facts والتي تمتاز
بعموميتها وقدرتها على الانتقال من جيل لآخر وفرض سيطرتها على المجتمع.
وقد عرف رادكليف براون البناء الاجتماعي[4] بأنه شبكة العلاقات الاجتماعية
العقلية التي تقوم بين سائر الأشخاص في المجتمع وقد اعتبر براون الأسرة وحدة أولية
للبناء الاجتماعي إلا أن ايفا نز برتشارد يختلف معه في أن الأسرة لا يمكن الاعتماد
عليها كوحدة ثابتة بدرجة عالية من الثبات والتركيب والتي تتألف من مجموعة من
الأشخاص يعتبرون أنفسهم وحدة قائمة بذاتها وترتبط بسائر العلاقات الأخرى في علاقات
بنائية.
كما أن ايفا نز برتشارد يختلف مع براون حول مفهوم البناء الاجتماعي فبروان يرى
أن الأنساق الاجتماعية أنساق طبيعية يمكن معالجتها بتطبيق مناهج العلوم الإنسانية
باعتبارها فرعاً من الطبيعيات في حين أن ايفانزبرتشارد يرى أن الأنساق باعتبارها
فرعاً من الإنسانيات. إذاً فالبناء الاجتماعي عبارة عن فرع بين مجردات Aconsistency of Abstractions .
إذا انطلاقا مما سبق يمكن تعريف التغير الاجتماعي
بأنه كل تحول في النظم و الأجهزة الاجتماعية ، من الناحيتين البنائية و الوظيفية ،
خلال فترة زمنية محددة ، وهذا التعريف يوافق ما ذهب إليه " دافيز Davis"
أن التغير الاجتماعي هو التحول في التنظيم الاجتماعي القائم سواء في تركيبه و
بنيانه أو في وظائفه .
[1] عون الشريف قاسم
– حلفاية الملوك التاريخ والبشر- دار جامعة امدرمان الاسلامية للطباعة
والنشر الطبعة الاولي 1988م ص 74.
[3] أحمد أبوزيد- البناء
الاجتماعي – مدخل لدراسة المجتمع- الطبعة الثانية- الهيئة العامة المصرية للكتاب
1982-ص9.
[4] محمد الغريب عبد
الكريم- السوسولوجيا الوظيفية- المكتب الجامعي الحديث-محطة الرمان الاسكندرية
1998م -ص162
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق