الاثنين، 12 ديسمبر 2016

رقصة الشمس في ذكرى المولد النبوي



رقصة الشمس في ذكرى المولد النبوي
عبدالعالي الصغيري
باحث في الأنتروبولوجيا
تكتسي ذكرى المولد النبوي بالمغرب طابعا خاصا، سواء من حيث الاحتفالات التي تقام بمناسبة هذه الذكرى أو من حيث الطقوس الأنتروبولوجية التي يتدخل فيها أو ينتجها عدة فاعلين من زوايا ومساجد وجمعيات وكذلك أعراف وتقاليد؛ وتأتي هذه المساهمة من أجل تسليط الضوء على بعض الطقوس الأنتروبولوجية التي تتخلل هذه الذكرى بمنطقة الجرف اقليم الرشيدية كحالة، من أجل وصف بعض المشاهد والتعبيرات الرمزية في هكذا مناسبات.
في مناسبة ذكرى المولد النبوي ببلدة الجرف، تحرص الأسر على خلق أجواء احتفالية، عبر إعداد خلطات من طبخات المقدس التي تسم هذه المناسبات، كوضع الحناء في يد البنات، وتمرير "البخور" و"الجاوي"..، في مختلف مرافق البيت والزقاق، كما يتم تزيين الأطفال الصغار بأحلى وأجود الثياب، كما يستمتع الأطفال من الذكور بلعبة مشهورة على المستوى المحلي يطلق عليها إسم "فرفارة"  وهي عبارة عن مروحية من الورق مثبة على قصبة في طول 80 سنتمترا إلى متر واحد.
يلعب الأطفال الصغار بهذه اللعبة ويتسابقوا في الجري في الأزقة والشوارع حتى تحوم المروحية، ويدخل هذا الطقس في نفوسهم البهجة والسرور، أما الكبار فيتبادلوا الزيارات وصلة الرحم، كما تتضلع الزوايا بمجالس من المديح والسماح وتلاوة القرآن والأمر نفسه ينطبق على المساجد، أما الجمعيات فتقيم مهرجانات احتفالية تتخللها مسابقات ثقافية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمداح نبوية وتلاوات قرآنية لطلبة دور القرآن.
يثيرنا أيضا في هذه الطقوس، ذلك الطقس الذي يتسابق إليه سكان البلدة في الصعود باكرا إلى أسطح المنازل وأعلى نقط فيها، لمراقبة الشمس عند طلوعها، بحيث يعتقد الساكنة أن الشمس ترقص في شكل دائري ومتوهج مشع عند حلول  ذكرى المولد النبوي، ويطلقون عليها إسم "عوينة الشمس"، ويمثل الأمر في المخيال الجمعي ذلك النور الساطع الذي انتشر مع ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعم البشرية بالنور والضياء. في هذا الإطار تقول إحدى ساكنات البلدة " كنا ننتظر ذاك اليوم بشوق وحرارة، نعد الدقائق والثواني المتبقية حتى يصبح الصباح، وما إن توشك الشمس على الشروق، حتى تسمع زغاريد النساء من أعالي سطوح المنازل...والأطفال مذ ذاك الوقت الباكر على غير عادتهم يترقبون تلاوين الشمس المتوهجة، فتجد أحدهم يقول لقد رأيتها احمرت، بينما الآخر يقول اصفرت، أما الثالث فيقول لا وإنما أراها تبتسم...لقد استيقظت مرة وحاولت أن أرى ما يرون لكني لم أرى شيئا، رغم أن ابنة عمي وابن عمي رأوا تماثيل صور، ووو، وحينما أقول لهم لم أرى شيئا يقولون: تعالي مكاني وسترين، ورغم ذلك لم أوفق،.. حقا كانت طفولة بريئة ترى ما لا يراه الكبار..
في جو تغمره الفرحة نستيقظ وأيادينا مخضبة بالحناء، نرتدي أحسن ما نملك من الثياب نحمل مروحياتنا الورقية المسماة "الفرفارة"، ونجوب شوارع القصر وكلنا فرح وسرور نردد كلمات جميلة" فرفارتي فرفارتي فرفارة الميلود" ياليتني أعود صغيرة حتى أفرح كما كنت أفرح فرحا حقيقيا[1]".
هكذا يحضر طقس رقصة شمس المولد النبوي في مخيال ساكنة بلدة الجرف؛ طقس مليء بكثير من المعاني والدلالات التي تحيل إلى النور والضياء وإشراقة فجر جديد تتجدد معه بواعث الأمل ومعاني السعادة في اتباع خطى الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.





[1] و.م.طالبة باحثة بجامعة مولاي اسماعيل بمكناس.

الأحد، 24 يوليو 2016

مفهوم القبيلة عند جاك بيرك

مفهوم القبيلة عند جاك بيرك




*تقديم:
شكل مفهوم القبيلة، إلى جانب مؤسستي الزاوية والمخزن، مفهوما محوريا في الدراسات السوسيولوجية إلى حد يمكن اعتباره " ذرة " للخطاب السوسيولوجي، بالخصوص الخطاب الكولونيالي، باعتبار ما كان سيوفره له تناول القبيلة، من تقدم في معرفة / غزو المجال الذي كان ينوي التحرك فيه . لا غرابة إذن من ملاحظة أو تسجيل تعددية في وجهات النظر وفي تناول هذا المفهوم، بالرغم من أن التصور أو المنظور العام للقبيلة كما تقدمه المخيلة الإثنوغرافية هو نفسه، أي باعتبارها كيانا تسود فيه نزعة مشتركة ومتأصلة نحو هاته الصفة أو تلك. كيف ندرك القبيلة إذن؟ هل ندركها من خلال وظيفتها التاريخية ونقول أنها قوة سياسية ضمن الثلاثي مخزن – قبيلة – زاوية كأنساق سياسية فرعية ؟ أم أنها تتحدد من خلال ارتباطها بالمجال وفي علاقتها مع " مورفولوجية الأرض " ؟ أم أنها ليست سوى حصيلة طبيعية لتوسع أسري متوحد الأصل ؟ وعلى مستوى آخر كيف نقاربها؟ هل باعتبارها كيانا ثابتا محددا في الزمان والمكان أم أنها فوق ذلك كيان اجتماعي متحرك، مع ما تفرضه الدينامية من علائقية ومن تشابكات؛ أي ماكروسوسيولوجية المقاربة ؟
تحيل هذه التساؤلات إلى مقتربات متعددة حول ما ندعوه بالقبيلة والمجتمع المغربي للقرن 19 بشكل عام .
*جاك بيرك : المقاربة اليقظة .
تعتبر القبيلة العنصر الأكثر انزواء وداخلية في المجتمعات العربية؛ فهي الخاصية التي تعطي للمجتمع العربي سمته المميزة مثلما تعطي اليوم الطبقة في أنصع تجلياتها التاريخية سمة المجتمع الأوروبي وحجر زاويته، عندما كتب جاك بيرك مؤلفه الشهير (المغرب العربي في دواخله من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر) أشار رأساً إلى القبيلة؛ قصة جاك بيرك مع مصطلح القبيلة الذي لازمه طوال حياته كباحث اجتماعي، ترجع في البداية إلى سنة 1932م عندما بعثه أبوه (وكان آنذاك مسؤولاً سامياً في الحكومة العامة الفرنسية وتعنى بشؤون الجزائر في الفترة الاستعمارية) إلى المناطق النائية داخل الجزائر وبالتحديد منطقة "السباسب" في "الحُضنة" على "طريق بوسعادة"هنا عرف جاك بيرك أن "السكان الأصليين" كتعبير كثر تداوله في العلوم الاجتماعية (Indigeneous) تعني بدون ريب قبائل "الصحراء والتل".
إن تصرف والد جاك بيرك تجاه ابنه غني بالمعاني- هو موقف نابع من سلطة مركزية محتلّة تطمح إلى معرفة خبايا وخفايا المجتمع المحتل بهدف إحكام القبضة والسيطرة المطلقة عليه. إنصافاً للرجل، لم يقم جاك بيرك بهذا الدور، إلا أن موقف الأب ليس غريبا: جلّ الحملات الكلونيالية تتكون عادة من رافدين أساسيين: رافد عسكري يحسم الموقف ميدانياً ورافد علمي يتمثل في فريق من الأنثروبولوجيين وأخصائيي علم الاجتماع والأتثولوجيا، يمهدون للنصر العسكري عبر المعلومات والمقاربات العلمية التي تجمع وفق مناهج وتقنيات بحث ورصد للواقع. رغم ما اعتراها من توظيف سياسي واضح، قوامه خدمة الهيمنة الاستعمارية، تعتبر هذه الدراسات الكلونيالية إضافة علمية لا يستهان بها البتة.
 حظيت هكذا القبيلة بدراسات عديدة في المغرب العربي في الفترة الاستعمارية؛ لأن حاجة المحتل كبيرة لمعرفة المجتمع من الداخل، سواء كان ذلك في زواياه المنعرجة في منطقة "السباسب" الصحراوية والجافة أو في زواياه المستقيمة في المناطق الحضرية. سمّيت المناطق الأولى أرض "السيبا" وسمّيت المناطق الثانية "أرض أو بلد المخزن". عادة ما تكون الأولى مناوئة للسلطة تتميز بالمشاكسة وتعمل على تقويض أسس العمران الذي تحتضنه المدينة، أما الثانية فهي موالية للسلطة القائمة وتعمل على توطيدها وتنتفع من سخائها، في المقابل، عبر المال أو الوظائف المتحصل عليها.
تبرز أهمية جاك بيرك في تناوله ومقاربته لمفهوم القبيلة ، في أنها ظلت وعلى امتداد فترات زمنية متقاطعة، واعية بحدودها . إنها مقاربة يقظة " ترفض كل تعميم انطلاقا من حالة مزدوجة التحديد " .
إن مرحلة التنظير، كمرحلة ملازمة لكل بحث علمي، لا يمكن التوصل إليها حسب جاك بيرك إلا انطلاقا من عمل مقارن بين حالات منفردة  . ومن ثم ستعطى الأولوية للتحليل قبل التركيب مع ما يتطلبه ذلك من قطع مع المناهج التي اعتادت البحث عن الثوابت وعن الإطلاقية.
وفي هذا الإطار كذلك سيتم تعويض البحث عن التشابهات بالبحث عن الاختلافات والفوارق ومن ثم الاهتمام بتعددية الأشكال التنظيمية وكذا البنيات الاجتماعية التي بلورها سكان هذه المنطقة أو تلك، بالخصوص سكان الأطلس الكبير الذين شكلوا مجال اهتمام ودراسة جاك بيرك، بالرغم من طغيان منظور ما يسميه هو نفسه " بالاستمرارية المغاربية " .
لابد من إدراك القبيلة ضمن صيرورتها التاريخية، وبالتالي فعوض تعريف واحد لها، ستبرز تعاريف ومتغيرات عديدة تستمد مصداقيتها من أهمية السياق التاريخي والانتباه إلى علاقة القبيلة بالدولة و إلى لحظات الصراع حول السلطة، ومدى التصاقها بالوطن المسكون .
ينبغي إذن، حسب جاك بيرك دائما الاهتمام بدراسة " الحالات " في ذاتها وفي أبعادها التاريخية، ومن ثم سيهتم بدراسة المجتمع القروي وبشكل أدق المجتمع الزراعي في علاقته مع الوسط الطبيعي أو ما يسميه بـ"الأساس أو الجوهر الطبيعي" . هذا التداخل بين الإنسان و وسطه القروي هو الذي سيحدد في نظره، الشكل المجتمعي Sociétal، لقبيلة معينة " سكساوة " بالنسبة إليه .
بالإضافة إلى المتغيرات السابقة، وضمن إشكال نظري آخر متعلق أساسا بمحاولة قراءة أو إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي لشمال إفريقيا، سيركز جاك بيرك على دراسة العلامات وما يمكن أن توفره من إمكانيات في فهم التاريخ الحقيقي لهذه المجتمعات، يقول جاك بيرك : " لقد سعينا فقط إلى التأكيد على الأهمية التفسيرية التي تكتسيها العلامات في فهم جانب من الظواهر الاجتماعية في شمال إفريقيا، لأن هذه المنطقة ظلت باستمرار أرض البحث عن هوية الذات بالاستناد إلى التأويل أو التأكيد أو الخداع، أو بواسطة الاندماج أو الانشطار، ففي حياة الكلمات يكمن قسط من تاريخ و مورفولوجية المجموعات  .
هذه الاعتبارات ستجعله ينظر إلى القبيلة في أبعادها الحقيقية، ومن ثم محاولة مقاربتها بحذر شديد ليس باعتبارها وحدة مغلقة بل ضمن إطار عام و شامل ، ضمن شرط تاريخي محدد، عبره تم تعمير المغرب. " إن تعمير المغرب – يقول جاك بيرك – يبدو لنا كفسيفساء، لكن الحبة به صغيرة و محدودة، و الألوان رغم تعددها فإنها تتجمع تقريبا دائما في نسق واحد هو الأسماء التاريخية الكبرى "  . إلا أن هذا لا يعني أننا استطعنا حل ألغازها و دلالاتها. لكن يقول جاك بيرك، أليس التمييز بين خطوطها عملية تحفز عليها أبسط ضرورات المنطق و أبسط متطلبات العقل ؟ هذا ما قام به باحثونا، فقد اعتمد بعضهم على الوهم النسبي الذي ينتشر الأبناء بمقتضاه بعيدا عن الأب؛ بينما اعتمد البعض الآخر على التفسير التاريخي الذي يقوم على الوهم النسبي الذي ينتشر الأبناء بمقتضاه بعيدا عن الأب؛ بينما اعتمد البعض الآخر على التفسير التاريخي الذي يقوم على تناحر المجموعات، هكذا شرح كل بطريقته الخاصة هذه التكرارية الغريبة التي تعرفها أسماء المجموعات.  
إن القبيلة لا تتطور فقط بواسطة التباعد، إن التباعد يشكل فقط إحدى اتجاهاتها الممكنة وهو نتيجة للتقلبات التي فرضها عليها التاريخ . إنها تتطور و بنفس القدر عن طريق التقارب، ومن ثم يمكن إدراكها " كعسلوج " واحد تمتد جذوره من قريب لقريب حتى يشمل مجموع جهات الفق ".
إنها لا تنمو فقط عن طريق الاندماج، بل كذلك عن طريق التجميع، وعندما نقول تجميع فهذا يعني أن ثمة فاعل، ثمة دوافع وعوامل ساهمت في خلق تكتلات و تشتيت أخرى .
هذه العوامل حسب بيرك تكمن في " الانتصارات والهزائم، تنقلات الغزاة أو تيهان الهاربين، إنها الحيوية التي تبعث على الانتشار أو الضعف الذي يقترن بالتشتت؛ حركات التوسع أو الانكماش التي يعرفها الاقتصاد الفلاحي وعلى الأخص الرعوي؛ تكاثر أو اختلاط المجموعات "  . وبشكل عام التقلبات التي فرضها عليها التاريخ كما أشرنا فوق، هكذا يخلص جاك بيرك - في الأخير- إلى إظهار طغيان عامل الكسب والمعاش مع ما يترتب عن ذلك من حروب وصراعات، في فهم وتفسير تكتلات بشرية معينة . يقول جاك بيرك : " إذا ما حاولنا-الآن- تجميع المظاهر الأكثر تأثيرا في التنظيم القروي، فإننا سنتبين أنه نتيجة لغلبة الإنسان الاقتصادي Homoeconomicus  .
إن الحديث عن تكتل بشري معين من خلال صراعه مع الطبيعة ومع التاريخ، من خلال صراعه مع الحياة، هو ما طبع تصور جاك بيرك للقبيلة. وباعتبار أن هذا الصراع يستدعي الديناميكية والتحرك، فإن ذلك سينعكس لا محالة على مستوى التعريف، مستوى تحديد مفهوم القبيلة . إنها حسب تعبير " بول باسكون "، وبصيغة تلخص جيدا طرح بيرك، عبارة عن جمعية سياسية مبنية على عوامل اقتصادية جغرافية : أي علاقات الإنسان بالأرض، والطاقة البشرية بالثروة البيئية وفضائها في مستوى تكنولوجي معين .
هكذا عوض العثور من خلال مجهود جاك بيرك على تعريف محدد للقبيلة سنجد أنفسنا أمام تساؤلات أخرى جديدة تتعلق أساسا بالعامل المحدد الذي على أساسه نفهم هاته التكتلات البشرية التي ندعوها قبائل، هل هو العامل الاقتصادي، أوالجغرافي، أم شيئا آخر؛ ومن ثم الرجوع مرة أخرى- أو بالضرورة - إلى الميدان؛ إلى المادة الخام الأساس لكل تنظير حسب بيرك .

* تحليل البنى الاجتماعية بالأطلس الكبير ؛ حالة قبائل "سكساوة":
مما لا شك فيه أن جاك بيرك لعب دورا كبيرا في تحليله للبنى الاجتماعية بالأطلس الكبير وكذا تاريخ هذه المنطقة التي اتخذها موضوعا لدراسته، و بالخصوص تاريخ قبائل" سكساوة" الأمازيغية . ويقول الوزاني عن سكساوة: " سكسيوة جبل موحش جدا، تعود سكانه أن يضعوا على رؤوسهم قلنسوات بيضاء.... يعمر الرجال طويلا ، فيعيشون عادة ثمانين أو تسعين أو مائة سنة، وشيخوختهم قوية و خالية بطبيعتها من العلل التي تحملها معها السنوات فهم يسيرون وراء البهائم إلى أن يدركهم الموت، لا يرون الأجانب مطلقا ....
ويقول جاك بيرك : "إن التاريخ يمثل في آن واحد المنطلق و النتيجة في هذا البحث". لكن يمكن أن نتساءل عن الدوافع التي جعلته يولي هذا الاهتمام بماضي مجموعة قبلية، في الوقت الذي يكتفي الباحثون في مثل هذه الحالات بإنجاز دراسات مونوغرافية وصفية حول الجوانب المادية والاجتماعية المتعلقة بحاضر المجموعة المدروسة . فما هو ياترى السبب الذي دفع جاك بيرك إلى البحث عن التاريخ في وديان وأعالي الأطلس الكبير ؟
قبل الخوض في غمار الموضوع لا بأس أن نتعرف عن بعض المحطات التي حلّ بها قبل وصوله إلى الأطلس الكبير . فخلال ربيع 1935 تم نقل جاك بيرك من مركز البروج إلى سوق الأربعاء الغرب لشغل منصب مراقب مدني في هذا المركز الذي يتواجد في قلب منطقة فلاحيه، حيث كتب دراسته حول الحياة الاجتماعية في سوق الأربعاء بين الحربين التي تضمنت تصنيفا لأهم الشرائح التي تتكون منها البنية الاجتماعية للمدينة ونواحيها . فجل السكان ينحدرون من قبائل عربية، بني هلال ؛ بني معقل ؛ وبني مالك؛  وبني أحسن .
وفي أواخر سنة 1935 عيّن بيرك مسؤولا عن ملحقة" حدّ كورت" في الأراضي العليا للمغرب وكان هذا المركز تابعا آنذاك لإدارة المراقبة المدنية الموجودة في سوق الأربعاء . وقد قضى الجزء الأكبر من إقامته في المغرب مسؤولا عن هذه الملحقة التي كانت تضم المنطقة الشمالية للمغرب حتى ضواحي "جبالة" .
وفي سنة 1943 التحق بالإقامة العامة حيث أسندت إليه مهمة الإشراف على مكتب الأبحاث في إطار الإقامة العامة. كان لهذه التجربة مفعول كبير في التطور السياسي و الفكري لجاك بيرك، لكنه ما لبث أن أقيل من هذا المنصب ليعيّن كمراقب مدني في "إمنتانوت" بالقرب من مراكش . وفور تعينه شرع في تهيئة أطروحته الجامعية حول " البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير " التي بحث فيها عن تاريخ قبائل "سكساوة " .
إن اهتمام "جاك بيرك" بتاريخ سكان هذه القبائل، لا ينم فقط من نزعة معرفية ,شمولية وموسوعية، بل كان أمرا ضروريا لأن أهم مظاهر الحياة الاجتماعية هي نتيجة للتطور التاريخي، ولا يمكن فهم أي ظاهرة محلية دون ربطها بسياق التطور الذي عاشته المنطقة خلال القرون المتعاقبة، وهو ما عبر عنه جاك بيرك بـ: "نظام سكساوي" .
إن التحليل الاجتماعي التاريخي هو الذي مكن بيرك من فهم بعض مظاهر السلوك الجماعي و الخصائص التي مازالت تتحكم بكل ثقلها في العلاقة بين الأفراد والجماعات. وقد تمكن من خلال دراسته لتطور قبائل "سكساوة " من فهم المغزى العميق لبعض أشكال السلوك الاجتماعي التي يغيب معناها عن وعي الأفراد الذين يعيشونها في شكل تلقائي. وتبقى غامضة وضبابية بالنسبة لدارسه وإلى الباحث الذي يتوقف عند المستوى السطحي في دراسته الظواهر الاجتماعية .
وقد لاحظ بيرك مثلا أن التنظيم السياسي عند قبائل "سكساوة" كان يتأرجح باستمرار بين التوجه الديمقراطي و الاستبدادي، وبالتالي فإن فهم طبيعة المؤسسات السياسية يقتضي دراستها من زاوية تاريخية، وهو ما خلص إليه، بأن النزعة الاستبدادية خاصية تتميز بها الحياة الاجتماعية عند القبائل "البربرية" في الأطلس الكبير؛ لكن هذه النزعة الاستبدادية تصطدم في آخر المطاف بالواقع القبلي الذي ينزع في العمق إلى تفضيل النظام الديمقراطي وقيم المساواة بين الأفراد والجماعات.
إن اهتمام بيرك بالتاريخ الاجتماعي لقبيلة" سكساوة" يرجع بالأساس إلى الأهمية التي يوليها سكان المنطقة لكل ما يتعلق بماضيهم .
خلاصة القول أن جاك بيرك من خلال دراسته لقبائل "سكساوة" ومن خلال الاستنطاقات، خصوصا الوثائق وأسماء الأماكن والأعلام واللجوء إلى المصادر الشفوية، استطاع دحض التصور الذي كان سائدا في الدراسات الاستعمارية خصوص أفريقيا الشمالية من خلال استناده على فرضية تختلف جذريا عن هذا التصور، مفادها أن التنظيمات القبلية ترتبط في علاقة جدلية مع محيطها الجغرافي .

لائحة المراجع:
- عبد الكبير الخطيي , " المراتب الإجتماعية بالمغرب قبل الإستعمار " , المجلة المغربية للإقتصاد و الإجتماع , العدد 2 , 1975 .
- الأنتربولوجيا والتاريخ م . س , ص . 121
- حليم عبد الجليل , " البحث السوسيولوجي في المغرب " , مجلة كلية الآداب بفاس 1982/83 , العدد 6 ص . 25
- مقال :القبيلة: حجر الزاوية في فهم واقع المجتمع العربي راهنا ومستقبله القريب العروسي العامري.
- انظر أحمد توفيق , مساهمة في دراسة المجتمع المغربي , إينولتان من 1850 إلى 1912 , منشورات كلية الآداب , الرباط , 1983 الجزء الأول , ص : 131 .
- *موقع الحوار المتمدن –العدد 1161- بتاريخ 2005/04/8- www.ahewar.org

- مجلة إضافات – المجلة العربية لعلم الاجتماع العدد السابع صيف 2009 الصفحات (59-63) .

30/03/2011

الجمعة، 24 يونيو 2016

ما نصيب الهوية والثقافة في "الربيع الديمقراطي"



ما نصيب الهوية والثقافة في "الربيع الديمقراطي"
في الوقت الذي تسعى في المجتمعات و الثقافات جاهدة إلى الانعتاق و التحرر من التبعية و الاستعمار الثقافي ، والهوياتي ، انطلاقا مما أفرزته العولمة و الأنظمة الرأسمالية و الامبريالية من تغيرات سوسيواجتماعية و ثقافية غيرت من قيم المجتمعات وقضت على تضامنهم الآلي ، لتحل الفردانية والبراكماتية ، لتطفو المصالح على بحر الحياة الاجتماعية الغير مستقر والهائج دوما ، حيث يصعب بمكان على أي سفينة ثقافية الرصو فيه إن لم تكن لديها أشرعة قوية ، وإلا سيجرفها التيار حتما.
واقعنا الاجتماعي و الثقافي و الرمزي اليوم شهد مجموعة من المتغيرات الخطيرة التي أثرت في مختلف اللبنات والأسس الأولية للبناء الثقافي و الهوياتي ، ونخص بالذكر هنا مؤسساتنا الاجتماعية المتمحورة أساسا في الأسرة ثم المدرسة ،والمجتمع كوعاء جامع ومفرز لنتائج التفاعل ، ليتشكل لنا في النهاية فضاء عام غير مستقر على انمودج بعينه بل قابل للتحول و التغير دوما؛على ضوء ما سلف دعونا نساءل الحراك الاجتماعي و الثوري الذي شهدته شعوب شمال إفريقيا والشرق الأوسط ، فما موقع الدفاع عن الهوية و الثقافة من هذا الحراك؟ ، أين تتجلى مظاهر إثارة إشكالات الهوية و الثقافة ؟، وعلى أية معايير و أية أسس؟
كإجابة على هذه التساؤلات نجد  عالم الاجتماع التونسي ذ.محمود الذوادي  يعتبر أن ما غفلت عنه ثوارات الربيع الديمقراطي هو رفع مطالب ترد الاعتبار للثقافة و الهوية ،حيث بقيت المطالب منحصرة في ماهو سياسي و اجتماعي لكن لم تنتقل لما هو ثقافي حيث إن الوضع الثقافي مازال مركبا ومعقدا ، وهنا يطرح الذوادي إشكال اللغة كعنصر أساسي للتحليل حيث اعتبر أن شعوب شمال إفريقيا مستلبة لغويا، حيث إن لغة المستعمر ما تزال متغلغلة في البنيات الرسمية لهذه البلدان لتنتقل بذلك إلى الاجتماعي و الثقافي وتخلق استعمارا أشد خطورة وهو الاستعمار الثقافي .
إن الاستعمار الثقافي هو اخطر أنواع الاستعمار فهو يهدف إلى احتلال العقل في وقت تكون فيه الثقافة الذاتية لبلد ما على أدنى مستوياتها (لأسباب مختلفة)
الاستعمار الثقافي لا يحتاج إلى الأسلحة التقليدية ولكنه – ربما يحتاج حاليا – إلى التكنولوجيا المتقدمة والعلم  والاتصالات الحديثة.
الاستعمار الثقافي على عكس الاستعمار العسكري يحتاج إلى زمن ليس بالقصير لتحقيق الأهداف المرجوة منه  لأنه ينخر بطيئا في عقول الناس وخاصة عقول من يقال عنهم (المثقفون) لأنهم لبنة الثقافة ويصبح هؤلاء هم المروج لثقافة المستعمر.
أسوء أنواع الاستعمار الثقافي هو بث الأفكار المتخلفة والهدامة وإثارة الفتن والنعرات الدينية و الطائفية والمذهبية وتشجيع أي فكر يدعو إلى عدم الاستقرار واستمرار الفوضوية وقتل أي أفكار تدعو للعلم والتعلم والتحرر والتقدم والرقي.
كل دولنا العربية الآن واقعة تحت الاستعمار الثقافي – شئنا آم أبينا – وكثير من الوقائع الاجتماعية تؤكد و تدل على هذا .
فعلى سبيل المثال لا الحصر ما يشهده مجتمعنا المغربي من تحولات على مستوى القيم و الأخلاق ، وفقدان خصوصيات التضامن الاجتماعي و العائلي ، وطغيان الاستهلاك التفاخري و الفردانية المتوحشة ، ثم كثرة الجرائم الخطيرة منها في مناطق التضامن الآلي ناهيك عن التحولات المؤسفة التي شهدتها مؤسسة الأسرة ، والتغير الفجائي الذي طرأ على أساليب التنشئة  ، و الأدهى من هذا معايير تشكل هاته المؤسسة التي انقلبت المعايير و الأعراف في تشكلها لتلبس حلة جديدة ناسخة في ابعد الحدود أنموذج الزواج الغربي ، فأصبحت مؤسساتنا التعليمية اليوم خصوصا في المرحلة الثانوية و الجامعية تعج بالعلاقات العاطفية الحالمة ، ولا يقتصر الأمر هنا بل الفضاء العام نفسه يشهد ممارسات شبه جنسية أمام مرأى الجميع دون تحريك ساكن ضبطي لما يقع ، أو ثقافة خلاقة  . وأمام تفاقم العزوف عن الزواج وصعوبة العيش والاستلاب الثقافي أصبح هناك نوع من التماهي والتطبيع مع هذا الوضع‘ ولم يعد إشكال في علاقات تخرج عن نطاق المسموح به ثقافيا أو مرجعيا، ومن يدري ربما يمكن التمرد في أفق بناء ثقافي جديد ، حيث أضحى التنازل الثقافي ، وقتل الثقافة و الهوية أمرا عاديا في ظل انهيار جدار الدفاع و الصد المحلي أمام قوة صدام الثقافات الدخيلة.
في منحى آخر تعبر أزمة التعليم التي يتخبط فيها التعليم المغربي عن شكل آخر من أشكال الاستلاب الفكري و العلمي الذي لم يجد لنفسه وحتى الساعة مخرجا من الأزمة ، فمن بين المشكلات التي لازالت تخلق القلق لدى الطلبة هو إشكال لغة التدريس حيث التدريس باللغة العربية في المرحلة الابتدائية والثانوية لتنقلب الأمور في المرحلة الجامعية باللغة الفرنسية ، الأمر الذي يشكل عائقا و عبئا بل خللا وظيفيا من داخل النسق التعليمي ، أما على المستوى السياسي فان كانت اللغة الرسمية للبلاد هي العربية و الامازيغية فحضور هاتين الأخيرتين من داخل النسق الإداري و المعاملاتي يبقى شبه غائبا تماما ، ليطغى في النهاية الرأسمال الثقافي اللغوي الفرنسي ليؤكد لنا من جديد أننا شعب لم يتحرر  بعد . شعب فاقد لرأسماله الرمزي يتكلم بما لا تفهمه ثقافته ، منسلخ عن جذوره و لبناته ، كل هذا ساهم في تكريس الهشاشة الهوياتية و الثقافية ، فأصبحنا وعاءا دون محتوى تخترقه ثقافات متناقضة على مدار الساعة .إننا بحاجة إذن إلى ثورة ثقافية و هوياتية لننحت موافقات و مواضعات قوية قادرة على صد الثقافات الدخيلة في أفق البناء الحضاري المستلهم لقيم التقدم والنمو ولكن ليس على حساب الخصوصيات المحلية.
عبدالعالي الصغيري








الأربعاء، 25 مايو 2016

المجتمع المدني و الدولة ، أية علاقة



المجتمع المدني و الدولة ، أية علاقة
عبدالعالي الصغيري
مسلك علم الاجتماع 
السداسي الخامس 2012
تقديم:
اكتسى مفهوم المجتمع المدني في الآونة الأخيرة  أهمية كبرى ، ارتبطت بشكل كبير بتلك النزاعات التي ارتسمت مؤخرا، والمتعلقة بتطور الدولة وكذلك العلاقات الناشئة بينها وبين المجتمع، حيث تجري بلورة العلاقات الضرورية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وقد بذلت  جهود فكرية لتأصيل نظري لتلك العلاقات.
إن الحديث عن إشكالية المجتمع المدني و الدولة أية علاقة ، يدفعنا بالضرورة إلى تحديد مضمون كل إشكالية ، أي تحديد مضمون المجتمع المدني ومضمون الدولة. مما سيسمح لنا بالكشف عن طبيعة العلاقة الناشئة بين المجتمع المدني والدولة والتغيير الدائم فيها، فهي ليست علاقة ثابتة، بل على العكس تتغير وتكتسى بأشكال ومضامين متنوعة بفعل عوامل متعددة.
فتناولنا لهذا الموضوع بالذات لم ينشأ من فراغ بل أتى لفك الغموض الحاصل بين الدولة و المجتمع المدني ، خصوصا في ظل أطروحات تقدم لنا الدولة وكأنها فوق الطبقات الاجتماعية، أي تظهر كمحاولة للمصالحة بين الطبقات، أو باختصار شديد تقدم لنا " لابسة ثوب حيادها المبجل ". ولهذا فإن المطلوب إنزالها من هذه العلياء ودراستها دراسة سليمة تكشف طبيعتها ووظائفها، وبما يمكننا من فك الاشتباك بين مفهوم المجتمع المدني ومفهوم المجتمع السياسي.



مفهوم المجتمع المدني:
        بداية، يتعين الإشارة إلى أنه ليس هناك مفهوم ثابت لمفهوم المجتمع المدني، فالمفهوم مرتبط بتاريخ نشأته، أي بالمشكلات التي كانت مطروحة في وقت نشوئه، فهو بالضرورة ابن بيئة تاريخية اجتماعية محددة وهو ابن فكر محدد أيضا. إذن ما هو المجتمع المدني ؟
إن عبارة " المجتمع المدني " تعني ذلك المجتمع الذي ينشأ كيانه الذاتي ويحافظ على قوانينه ويصوغ مبادئ تنظيمه واشتغاله، ويقيم قانونه أو عقده الاجتماعي الخاص به والمميز له. مجتمع يتألف من مواطنين أحرار، يستطيعون وقادرين على العيش سوية وبشكل مشترك، بحسب القواعد التي اختطوها، والتي أصبحت عادات لا يمكن تجاوزها. (هذا التصور، متطابق مع مواقف طليعي القرن الثامن عشر، يتفق وأفكار معينة من قبيل التحضر والاحترام وكذا فكرة القانون المدني).
هناك من يعرّف المجتمع المدني على نحو إجرائي بأنه جملة " المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة لأغرض متعددة منها :
أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها غايات نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية. وبالتالي، يمكن القول إن العناصر البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي : الأحزاب السياسية، النقابات العمالية، الاتحادات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية " .
وإذا حللنا التعريف السابق الى مكوناته أمكننا أن نستنتج بأن جوهر المجتمع المدني، بحسب وجهة النظر هذه، ينطوي على أربعة عناصر رئيسية :
- العنصر الاول يتمثل بفكرة " الطوعية "، أو على الاصح المشاركة الطوعية التي تميز تكوينات وبنى المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية المفروضة أو المتوارثة تحت أي اعتبار؛
- أما العنصر الثاني فيشير الى فكرة " المؤسسية " التي تطال مجمل الحياة الحضارية تقريبا، والتي تشمل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولعل ما يميز مجتمعاتنا الحضور الطاغي للمؤسسات، وغياب المؤسساتية بوصفها علاقات تعاقدية حرة في ظل القانون؛
- في حين يتعلق العنصر الثالث بـ " الغاية " و " الدور " الذي تقوم به هذه التنظيمات، والأهمية الكبرى لاستقلالها عن السلطة وهيمنة الدولة، من حيث هي تنظيمات اجتماعية تعمل في سياق وروابط تشير إلى علاقات التضامن والتماسك أو الصراع والتنافس الاجتماعيين؛
- وأخر هذه العناصر يكمن في ضرورة النظر إلى مفهوم المجتمع المدني باعتباره جزأً من منظومة مفاهيمية أوسع تشتمل على مفاهيم مثل " الفردية، المواطنة، حقوق الإنسان، المشاركة السياسية، الشرعية الدستورية .... الخ .
        * من وجهة نظر أخرى نجد أن "عبد الغفار شكر " يعرف المجتمع المدني بأنه " مجموعة التنظيمات التطوعية المستقلة عن الدولة .......، أي بين مؤسسات القرابة (الأسرة والقبيلة والعشيرة) ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختبار في عضويتها، هذه التنظيمات التطوعية تنشأ لتحقيق مصالح أعضائها كالجمعيات الأهلية والحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية، كما تنشأ لتقديم مساعدات أو خدمات اجتماعية للمواطنيين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وهي تلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف " .
دور المجتمع المدني ووظائفه
يستنتج من التعريف السابق أن جوهر دور المجتمع المدني هو تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم، ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من افقارهم، وما تقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي، وجذبهم الى ساحة الفعل التاريخي، والمساهمة الفعالة في تحقيق التحولات الكبرى حتى لا تترك حكرا على النخب الحاكمة.
وارتباطا بهذا الدور يبلور الباحث خمس وظائف تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني هي :
1. وظيفة تجميع المصالح،
2. وظيفة حسم وحل الصراعات،
3. زيادة الثروة وتحسين الاوضاع،
4. افراز القيادات الجديدة،
5. إشاعة ثقافة ديمقراطية.
مكونات المجتمع المدني
أما مكونات المجتمع المدني بالنسبة للسيد شكر فهي أي كيان مجتمعي منظم يقوم على العضوية المنتظمة التطوعية في قطاعات عامة أو مهنية أو اجتماعية ولا تستند فيه العضوية على عوامل الوراثة وروابط الدم والولاءات الأولية مثل الأسرة أو العشيرة والطائفية والقبيلة، وبالتالي فإن أهم مكونات المجتمع المدني، حسب هذا الكاتب، هي :
النقابات المهنية، النقابات العمالية، الحركات الاجتماعية، الجمعيات التعاونية الزراعية والحرفية والاستهلاكية والاسكانية، الجمعيات الاهلية، نوادي هيئات التدريس بالجامعات، النوادي الرياضية والاجتماعية ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية، الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الاعمال، المنظمات غير الحكومية المسجلة كشركات مدينة مثل مركز حقوق الانسان والمنظمات الدفاعية الاخرى للمرأة والبيئة .... الخ، الصحافة المستقلة وأجهزة الاعلام والنشر غير الحكومية، مراكز الابحاث والدراسات والجمعيات الثقافية.
في ضوء ما سبق يمكن تصور النموذج الاساسي لمجتمع مدني متطور كالتالي :
1. إن المجتمع المدني يضم مجموعة مؤسسات (وليس مجرد منظمات) تستطيع أن تلعب دور الفاعل في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي، وكلما تطور دورها في عملية التغيير، وكلما اتسمت بمرونة اكبر في استجابتها للبنية الاجتماعية.

2. إن المجتمع المدني المتطور القائم على فعل الطوعية والمبادرة والنزوع للعمل الطوعي – في إطار مشاركة منظمة – هو ركن أساسي في ثقافة بناء المؤسسات.
3. إن مؤسسات مجتمع مدني متطور تعني أن يتوافر لها وعي ورؤية، أو ما يمكن أن نطلق عليه موقف نقدي فهي تمتلك تصورا واضحا لخريطة المجتمع ومصادر القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومصادر الضعف، وهي مؤسسات لديها تصور واضح للتغيير الاجتماعي، وتتبنى مواقف الدفاع والمناصرة لمساندة فئات أو قطاعات أو جماعات، سواء على مستوى الحقوق المدنية أو الحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
4. انها مؤسسات لا تتبنى فقط ما يعرف " بالدور الالحاقي " أي معالجة المشكلات بعد حدوثها وإنما تتجاوزه الى " دور توازني "يسعى الى تحقيق توازن المجتمع والإسهام في عملية التحول الاجتماعي.
5. أن يأخذ بالنظرة الكلية، بمعنى أن مشكلات المجتمع المحلي والمشكلات الوطنية تقع في كل مترابط مع المشكلات الإقليمية والدولية، ومؤسسات المجتمع المدني لها دور في كل من هذه المستويات.
تسمح التعاريف السابقة بالتأكيد على أن هناك ثلاثة مصطلحات تشكل اركان مثلث فكري لا يمكن فصلها عن بعضها عن بعض لأي مجتمع ينشد التطور الحضاري في زماننا وهي : المجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية.
فالمجتمع المدني هو مجتمع المؤسسات الاهلية المرادفة للمؤسسات الرسمية، وتشمل الميادين السياسية والمهنية والثقافية والاجتماعية.
وحقوق الانسان هي : الحقوق الأساسية للانسان في التمتع بالعيش الكريم وضمان حريته وصيانة كرامته وتوفر العدالة في حصوله على حقوقه، وإن توفر هذه الحقوق من سمات المجتمعات المحضرة.
أما الديمقراطية فهي : المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، وقبول التعددية.
المراجع :
*المجتمع المدني و الديمقراطية :صلاح عبد الصبور.
كتاب : المجتمع المدني :التاريخ النقدي للفكرة ، جون اهرنبرغ  ، ترجمة عالي حاكم صالح و حسن ناظم .












السبت، 21 مايو 2016

السياسة الحضرية وتدبير المجال المديني


السياسة الحضرية وتدبير المجال المديني
المدينة المغربية كحالة
مجزوءة المدينة والحكامة/ذ.عبدالمالك ورد
السداسي الخامس
علم الاجتماع مكناس
اعداد:الطالب عبدالعالي الصغيري


تقديم :
يعتبر موضوع المدينة موضوعا مشتركا تتقاسمه العديد من التخصصات ، و بذلك يمكن أن نتحدث عن مدينة الجغرافيين ، و التي يتم التركيز فيها على المجال و التهيئة ،ثم هناك مدينة الاقتصاديين ( الإنتاج ، التسويق و الاستهلاك ...) ثم هناك ما يسمى مدينة السوسيولوجيين  ، وما يميز هذه الأخيرة ( السوسيولوجيا ) هو البحث في الخفي من الرهانات الاجتماعية حول موضوع السلطة في المدينة .(1)
وإذا كان الفضل يعود إلى البحث الجغرافي والجغارفيون، في دراسة المجال الحضري وإبراز خصوصياته ومشاكله، فإن باقي العلوم الاجتماعية الأخرى وعلى رأسها السوسيولوجيا قد اهتمت هي الأخرى منذ نشوءها للظاهرة الحضرية، وهذا ما يمكن ملاحظته مع الرواد الأوائل المؤسسين لعلم الاجتماع ( ماركس، دوركايم فيبر، زيمل...) وكذلك مع رواد مدرسة شيكاكو والذين يعود لهم الفضل هم الآخرون في إنتاج تراكم نظري ومنهجي لا يستهان به حول جل الإشكالات المتعلقة بالمسألة الحضرية.
لقد عرف المغرب عملية أو ظاهرة التحضر مثله في ذلك مثل باقي البلدان التي في طور النمو، وإذا ما تتبعنا سيرورة التحضر بالمغرب  ، فإننا سوف نلاحظ بأن ظاهرة التحضر فيه لم تأتي نتيجة لنمو طبيعي وتحول عادي في بنياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية... وإنما جاء نتيجة لتدخل الأجنبي مع حركة التوسع الإمبريالي في بداية القرن العشرين، مما أدى إلى ظهور تفاقم الاختلالات بنيويا ومجاليا لعل أهمها هو تكريس التبعية بمختلف أشكالها سواء منها الدولية في إطار علاقات التبادل اللامتكافئة بين المغرب والدول الرأسمالية أو الداخلية في إطار العلاقات اللامتكافئة بين البادية والمدينة التي كان من نتائجها تحول عدد كبير من سكان المغرب بين عشية وضحاها من سكان قرويين إلى سكان حضريين يقطن جزء  منهم في مدن الصفيح.
إذن فما هو واقع المدينة المغربية؟ وما الإشكالات التي تعاني منها؟ وما موقع التنمية الحضرية والمدينية في سياسات التنمية الوطنية؟  ماهي تحديات إعداد المجال الحضري؟ وإلى أي حد يمكن أجرأة كل بنود التنمية الحضرية التي تضمنتها الخطط والاستراتيجيات والبرامج والمبادرات التنموية التي سنها المغرب لتهيئة المجال الحضري؟


مع بداية تراجع الدولة المغربية في التدخل كفاعل مباشر في التنمية الاقتصادية والشروع في تطبيق سياسة التقويم الهيكلي وفتح المجال لفاعلين محليين في إطار القطاع الخاص والمجتمع المدني، أصبح المغرب أمام تحديات جديدة تفرضها عليه حركة العولمة بالإضافة إلى التحديات والمشاكل الداخلية التي تعطل عملية النهوض بالتنمية المحلية في المجال الحضري ، مما أدى إلى طرح المشكلة بحدة في الآونة الأخير من أجل بناء سياسة وطنية قويمة وطموحة لإعداد التراب الوطني، وبالتالي إعداد وتهيئة وتنمية المجال الحضري، ومن ثمة تمت صياغة الميثاق الوطني لإعداد التراب، كما تم عقد حوار وطني حوله، ليتم الخروج بمجموعة من الخلاصات والتوجهات والأسس التي ينبغي الاعتماد عليها في إعداد التراب الوطني ومن بينه البرنامج الحضري، كما أن تفاقم الوضعية الاجتماعية وتدني المستوى المعيشي وانتشار الفقر وضعف البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية وانتشار البطالة والأحياء الصفيحية...قد أدى كل هذا بالمهتمين والمعنيين إلى الانتباه لخطورة الوضع، مما أدى بهم إلى إعادة النظر في صياغة الخطط والاستراتيجيات التنموية، فجاءت بعض البرامج والمبادرات والاستراتيجيات التنموية، كبرنامج مدن بدون صفيح، والبرنامج الوطني لمحاربة الإقصاء في الوسط الحضري وإستراتيجية التنمية الحضرية المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وغيرها من البرامج الأخرى التي تهدف إلى تحسين وضعية الفرد والرفع من مستوى معيشته.(2)
من هنا أصبحنا نتحدث غن مفهوم الحكامة الحضرية التي تعتبر في قاموس التدبير الرشيد، كآلية تنموية تسهل عملية مشاركة السكان في تحقيق أهداف التهيئة وفق رؤية إستراتيجية مؤسسة على مقاربات التنمية البشرية المستدامة، وهي نتيجة حتمية لإعادة ترتيب علاقة المواطنين بالفاعلين المحليين والجهويين في ظل ديمقراطية تشاركية بدل الديمقراطية التمثيلية . و هي إذن دعوة صريحة إلى تجاوز حالة اللاتوازن الناتج عن أحادية صنع القرار دون مراعاة المنطق العلمي المؤسس على عناصر المشاركة في مختلف مراحل إعداد المشروع من التشخيص على البرمجة والتنفيذ ثم التقييم والمحاسبة في إطار سيرورة تمتاز بالشفافية والعقلانية.(3) فالإعداد والتنمية والتهيئة كلها مفاهيم تقنية تصب في ضرورة التنظيم النسبي للمجال حسب ما يعرفه من إمكانات ثقافية واجتماعية واقتصادية وايكولوجية، فهو التوفيق بين الشكل والمضمون والمحتوى المادي، يهدف إجرائيا وعمليا إلى إزالة الحدود بين مستويات المجال الوطني والمحلي وإلى العدالة بينهما في توزيع مدخلات ومخرجات التنمية المستدامة.
هكذا اذن، ومن خلال كل هذا سنحاول مقاربة و فهم التدبير المديني للمجال وفق هذه المتغيرات التي شهدتها السياسة الحضرية أو المدينية بالمغرب ، فإنتاج المجال بالمغرب يعرف تطورا مهما وتحولات مهمة في مقارباته ومبادئه، أفرزتها عوامل سوسيو-اجتماعية مهمة كالهجرة والنمو الديموغرافي...، وقد أفضى هذا التطور إلى إفراز ثنائية مجاليه تتجلى في بروز مجالات تتسم بالعقلانية في التدبير، محكم بمجموعة من المتغيرات الثقافية والاجتماعية، ومجالات تتسم بالتلقائية وتفتقر إلى مقومات التعمير المنظم من حيث الشكل والمضمون . (4) ، وذلك نتيجة للوفرة في الأزمات التي يعرفها هذا المجال، الواضحة بقوة في أشكال التنافر بين الإنسان والمجال، المترجمة في التمرد على الشكل والمضمون من طرف المستهلك، الذي يبحث من خلال منطقه الاجتماعي عن مستوى للتعايش مع الفضاء، الذي أنتج من خلال مقاربات تقصي جانب المعرفة والفهم في الإطار المنطقي المنظم لمراحل تطور المجال الحضري - الإنتاج، الإعداد والتدبير- .
ومن جهة أخرى، فغياب التذويب الميداني لثقافة المجتمع في مراحل التطور الحضري، يجعل معظم المتدخلين يواجهون حالات من الأزمة، ويجعل هذا القطاع مختلا على مستوى المخرجات والممارسات، فمن السهل أن نجد كثيرا من مظاهر الأزمة مرتبطة أساسا بالمبادرات الاستعجالية - أحياء إعادة الإسكان- في مجال التعمير، التي تكشف للملاحظ ما يعاني منه مجال التدبير الحضري من خلل على مستوى مقارباته ومبادئه وفلسفته.
إن الهدف من هذا المستوى من الفهم والتحليل، هو التأكيد على حتمية ما يمكن اعتباره طريقة جديدة في إنتاج المجال المديني ،تسعى إلى جعل إنتاج المجال غير مفروض، بل توافقي وتشاركي مع المجتمع المعني، ومؤسس على الفهم والمعرفة بالثقافة والأفكار السائدة للمستهلك والمستفيد .(5) إن دينامية من هذا القبيل، كفيلة بأن تهيئ الأرضية الملائمة للقيام بمجموعة من الإصلاحات السياسية، من شأنها أن تساهم في تعزيز اللامركزية، وتوسيع مشاركة السكان، من خلال تعزيز مبادئ المشاركة والتشارك والعدالة والشفافية والإدماج.
هذه المبادئ العامة للمنهج الحديث في التدبير، جاءت كعناصر أساسية لموضوعات الحكامة التي تعتبر كآلية للتدبير الرشيد والحكيم للموارد المكونة للمجال، بهدف تحقيق التوازن والاستدامة في التهيئة. وتتأسس على مجموعة من المتطلبات، أهمها الإشراك والمشاركة بين القطاعات المؤثث للمجال، من خلال مجموعة من القنوات المؤسساتية والقانونية، التي تمنح الفاعل والفرد الكفايات المناسبة للتوافق على أرضية مشتركة لعملية الإعداد يكون فيها للرأي والرأي الأخر حضور فعلي دون عمليات الحجر على رأي أي جهة.(6)
        لقد تطور المجال بالمغرب عبر مراحل كرونولوجية مختلفة من حيث فكرة الإعداد ومقاربات التدبير، و يمكن لمس هذا التطور بشكل واضح في تفاوت شكل المعمار، الذي يعتبر مرآة تعكس ما لصانعه من منطق علمي وعملي في توظيف مدخلات الاستقرار المديني، فالمدينة القديمة (في مدينة الدر البيضاء، طنجة، مراكش...) كأول نواة حضرية أنتجت وتطورت في سياق تاريخي له خصوصية اجتماعية وثقافية متميزة وواضحة في شكل المعمار ومورفلوجية المجال، العاكس بامتياز لثقافة المنتج المؤسسة على التضامن والحوار وحسن الجوار والمحترم للخصوصية الدينية في ما يحمله من أشكال البساطة في المعمار، الذي لا يعبر عن المستوى الاجتماعي للقاطنين بشكل واضح، والكاتمة لأفعال وسلوكيات الأفراد اليومية ، انطلاق من انغلاق المنازل على الخارج وانفتاحها على السماء من الداخل .
هذا النموذج في الإعداد سيعرف اختلاف وتطورا مع بداية الاستعمار، الذي سيعمل في كثير من المدن المغربية على تأكيد حضوره الثقافي وعلى رغبة في الاستقرار الثقافي من خلال إنتاج وإعداد وتدبير المجال الاورومغربي، الحامل في شكله ما وصل إليه المنتج من تطور في مجال الفن المعماري، والعاكس للخصوصية الثقافية للصانع، والمحترم من جهة أخرى للثقافة المحلية من خلال ما حاول أن يطبع به معماره من ثقافة الأخر، تعبيرا على القبول بالحوار والثتاقف الاجتماعي. انطلاقا من اعتماده القرمود والزليج كناصر أساسية في تزيين الكثير من البنايات، والتي توحي للملاحظ بطغيان المقاربات الفنية والثقافية في الإعداد .(7) تستمر سيرورة تطور إنتاج المجال الحضري من حيث الشكل لتظهر بعد الاستقلال المدينة الحديثة أو المدينة المغربية، التي تأسست وتطورت في سياق اجتماعي يعرف الوفرة في المشاكل، و لعل أهما التزايد الديمغرافي لسكان المغرب في العقود الأخيرة، وارتفاع معدل الهجرة القروية نحو المدن وارتفاع معدل البطالة والفقر... فضلا عن فشل سياسات الدولة الحديثة التي ظلت تتميز بطابعها القطاعي الجزئي الأحادي البعد. بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى كضعف وثيرة النمو الاقتصادي، وسياسية التقويم الهيكلي التي زادت من تعميق الاختلالات البنيوية في المجتمع المغربي وتأزيم الوضعية الاجتماعية على حساب التطلع إلى تنمية اقتصادية مجهولة الأفق، والتي لم ينل منها الإنسان المغربي سوى الفقر والبطالة و والتهميش والإقصاء والتشرد...(8) مما كان له الأثر في تحرير المبادرة في البناء بهدف امتصاص الأزمة الحاصلة في السكن خاصة، تتأسس هذه المبادرة عموما على مقاربات ومبادئ تحقيق الربح ، التي تبنتها لوبيات يتعارض منطقها مع منطق التدبير الحضري ويتوافق مع منطق وقواعد الليبرالية التي تحقق الربح على حساب الأزمة، وكمنتوج عرف المجال ظهور مجموعة من التجمعات السكنية التي تحمل في أشكالها الخارجية جميع متغيرات التفاهة واللاثقافة من حيث الألوان والأشكال الهندسية التي تظهر كزوايا قائمة تعبر عن رغبة الصانع في الربح . الشكل كأهم متغير يوضح الخصوصية في الثقافة الحضرية، نجده في مدينة الدار البيضاء كنموذج هو شكل أزمة في العديد من التجمعات السكنية، يوضح البعد عن كل ما هو ثقافي واجتماعي والقرب من التعمير التلقائي التي مجلات تفتقر إلى مقومات الثقافة وتتوفر فيها شروط التفاهة .(9) واذا ما حاولنا استقراء المجال الحضري بالمدن المغربية نجده من حيث كرونلوجية تطور المجال يتجه من وضع الإيجاب في اتجاه السلب، المعبر عنه بوضوح فيما أنتج بعد الاستقلال من طرف المبادرة الحرة ، التي اعتمدت في مبادئها الميدانية أسلوب التلقائية والسرعة في إنتاج التجمعات السكنية .
واقع يوضح الأزمة في فكر الإعداد ومقاربات الإنتاج التي تعرب الإنسان المستفيد من متنوجها كمفعول به فاقد للأهلية والخصوصية، ومستهلك لا منتج وهدف لا محور من كل عملياتها، هذا نلمسه فيما يعرف بأحياء إعادة الإسكان التي أنتجت لتدبير الأزمة التي تعرفها الحواضر ولعل أقرب مجال يوضح لنا التنافر في المضمون والحاجيات هو مجال التشارك: الذي أنتجه مدبرو التراب المديني لإعادة إسكان قاطني كريان ابنمسيك الواضح فيما خضع له من تغيير على مستوى المضمون الذي لم يتوافق ويتطابق ولو نسبيا مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لهذه الشريحة من السكان، فمجموع الشقق تحولت شرفاتها على غرف للتخزين في أحسن الأحوال وللسكن في أقصاها، فالمدبر لهذه العملية والواضع لتصورها الهندسي لم تكن له من المعرفة ما يكفي بحاجيات هذه الساكنة وبأولوياتها وبخصوصياتها الديموغرافية والثقافية، مما أثر بشكل سلبي على استغلال المجال، فالتغيير في المضمون يعتبر في منطق المستغل كرد فعل ضد إقصاء حاجياته في الإنتاج، فهل يحتاج ساكن التشارك في ثقافته اليومية إلى الحمام اليومي أم يحب حمام الدرب الذي يعتبر بالنسبة غليه مجالا لتبادر الآراء والأفكار والنقاش حول مشاكله اليومية العائلية والاجتماعية مع الجيران.
لنتقدم أكثر في تقديم أزمة المضمون بالفهم ، ننتقل إلى الدرب ثم الحي، الذي نجده في واقعه يقصي ثقافة التضامن الاجتماعي التي تميز المغربي، فمجموع التجمعات السكنية تكاد تخلو من مجلات الترفيه كالمساحات الخضراء التي تغيب في حي التشارك والتي عبر مجموعة من قاطنيها عن رفض إقصائها في عمليات الإعداد بالتمرد على المجال وعلى تصميمه بوضع مجموعة من المساحات الخضراء تنطلق من المبادرة الفردية لتعم المبادرة الجماعية التي يشارك فيها أبناء الدرب تعبيرا عن ثقافتهم، وهذا أقل ما يمكن القول عن واقع المضمون، الذي يعكس لنا مقاربة الصانع.
الشكل والمضمون متغيرين يوضحان الأزمة في الإعداد بامتياز ويعكسان مقاربة التطبيق المعياري في إنتاج المجال، بدل مقاربة المعرفة والفهم، فالمهندس والمقاول والمعماري في المدينة المغربية لم يتحكم ويحتكم في رؤيته وتصوره للمجال للمتغير البيئي والاجتماعي والثقافي، واهتموا بالبحث عن أقصى ما يمكن صناعته لاستغلال المجال واضعين في تمثلهم تقنيات الرسم والخطوط و البناء.
النتيجة واضحة في التنافر بين الإنسان والمجال وفي ما أنتج من سلب في مخرجات الإعداد، تنطلق من التمرد على المنتوج بالتغيير والتعديل إلى العنف الاجتماعي والإجرام وغيرها من الظواهر الاجتماعية السلبية بالأحياء الهامشية، إلى تحول المجال في التمثل والتصور من مجال معاش إلى مجال مدرك يعرفه الإنسان في حركته اليومية ويرفض الانسجام مع مكوناته المعمارية والاجتماعية .(10)
        إذن فبعد هذه الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن سياسات ذات المقاربات القطاعية المنغلقة، برز تفكير جديد الى ساحة التداول، مفاده ضرورة اعتماد المقاربة الشمولية التكاملية بين كل القطاعات، وخاصة في مستوى تدبير المجال الحضري. هذا جاء أيضا استجابة للمنطق الحديث المعتمد على البعد التشاركي في تدبير الشأن المحلي، وذلك في أفق محاولة تحريك دواليب التنمية الحضرية.وهذا يعني ضرورة إشراك الفاعلين المحليين. سواء كانوا من الحقل السياسي، أو من ساحة المجتمع المدني، أو من عالم الاقتصاد، من أجل بلورة مخططات تدبير الشأن المحلي، ومشاريع التنمية الحضرية.
ومن بين الأسس والركائز التي تقوم عليها هذه المقاربة الشمولية، نجد ضرورة تأهيل النسيج الاقتصادي الوطني، تكوين الموارد البشرية، التدبير الحضري وسياسة المدينة، المحافظ على الموارد الطبيعية، التنمية المتسديمة، التأهيل المجالي ومناطق التدخل الخاص، تنمية العواصم الوطنية والأقطاب الجهوية، والتنمية المحلية المندمجة، تدعيم اللامركزية وتوسيع نطاق اللاتمركز، الديمقراطية، الشراكة والمشاركة.(11)
 من هنا أهمية المبادئ التي يجب أن يعتقد ويؤمن ثم يتشبع بها الفاعل في إنتاج وإعداد وتدبير المجال المديني، هي مبادئ التشاور والتشارك التي يعتبر تفعيلها مدخل استراتيجي وحتمي للوصول إلى ذوق المستهلك ونمط عيشه الحقيقي، فمبادئ من هذا النوع سيكون لتبنيها نتيجة التحكم في سيرورة التحولات التي يعرفها المجتمع، أو بمعنى أخر ستمكن من في مراحل متقدمة في عملية إنتاج المجال من الاستجابة للحاجيات المتجددة للمواطنين - الكمية والكيفية - بناء على الخصوصية الجهوية والمحلية.
في هذا المستوى من الإنتاج سنتحدث عن التهيئة الديمقراطية بدل التطبيق المعياري لتقنيات المهندس ورغبات المقاول والمستثمر على حساب الأزمة، فتفعيل فلسفة من هذا النوع سيعرب المستهلك كفاعل به بدل مفعول به، وسننتقل إلى مستوى التهيئة التشاورية-التفاوضية بدل التهيئة الإجبارية، وسيعرف اللانتاج في قاموس التعمير بالمشروع الحضري الذي يحمل في إطاره المنطقي رغبات المستهلك مترجمة في أهداف وعمليات ونتائج ومؤشرات تقييم تشاركية توافقية المجتمع، هنا ينتقل المهندس والمعماري " على الإبداع وقت وضع الخطوط والأشكال والألوان للمجال" لترجمة أولويات وحاجيات المديني هذه المقاربة ستمكن كذلك من الوصول إلى مستوى التوافق بين مختلف الفاعلين، أو بمعنى ستمكن من إعداد الأفكار ، وخلق التوازن بين ثقافة المنتج وأفكار المستهلك، وكمخرج لهذا سيتم التحكم في إشكالية المديني الجديد الذي يجذب إلى الوسط الحضري للتضارب ثقافته البدوية مع محتويات المجال الحضري، وستحد من ردة فعله التمردية ضد مكونات المجال الحضري.
إن تحقيق مدينة فعلية وتنافسية يتطلب حكامة حضرية، قوامها الإشراك والتشارك واستشراف المستقبل بناء على التوافق من أجل التوازن، وهذا يستوجب إضافة إلى ما سبق تقديمه ، اتخاذ مجموعة من المقاربات كمعتقدات وقوانين يتبناها المنتج والمستهلك للمجال المديني.
الفهم والمعرفة، التشاور والتشارك، مداخل لإعداد الأفكار وأساس لإعداد المجال، وبالتالي التأسيس لتعمير يسهم فيه الجميع ويمنح المواطن حق المشاركة الفعلية في إعداد المشروع ويمكنه من التفاعل في اتخاذ القرار والتأثير في بلورة التوجهات المتعلقة بالإنتاج والتدبير، ويرسخ الاحترافية في قطاع التعمير ويطور التخصص في ميدان التنمية الحضرية.
إن الهدف من هذه المقاربة هو إيجاد الحلول الملائمة والمستديمة لإشكالية التكتلات العمرانية، لجعلها ذات قدرة تنافسية تمكن من التعايش بين الإنسان والمجال والزمان، وتوافق بين الحداثة والارتقاء بالهوية الوطنية والخصوصية الجهوية والمحلية.
هذا يوفر إطارا مرنا للتوفيق بين الشكل والوظيفة في عمليات الإنتاج، بناء على التوافق وسيتحكم في حدة الأزمة الحضرية ويمكن من التوازن بين الإنسان والتراب، وسيكون المنتوج المديني مرآة تعكس المحتوى الثقافي والفكري للمستهلك.
أحسن ما يمكن إنتاجه في ظل هذه المبادئ هو المعمار "الديمقراطي" الذي يستطيع التوفيق بين الثقافة والفكر والحداثة بحثا عن المدينة المعبرة عن الثقافة الشعبية بواسطة الأشكال والألوان والمضمون والوظائف، و لا مناص من اعتماد المقاربة الشمولية، والتي تشرك كافة الفاعلين المحليين والاهتمام بحاجيات ورغبات المواطنين، لأن وضع المخططات والاستراتيجيات التنموية  ينبني على أساسها، يفتح هامشا واسعا من تحقق الأهداف المتوخاة منها.(12)

ان أزمة المجال ومجال الأزمة الواضح في تنافر وتمرد الإنسان على المجال، هو نتيجة وترجمة لمقاربات التطور الحضري التي تتخذ كمنهج لها التطبيق المعياري السهل لأهداف الشبكات الاقتصادية المستثمرة في إنتاج المجال على حساب الأزمة، ويليق بالقرار الإداري المتبني للمقاربات الترقيعية كحل للمشاكل، والتقني المتناسي للثقافة المحلية، مما يعطي مجالا مدينيا يعرف الوفرة في السلب، ويتدبدب بين أزمة المدينة المفروغة من المحتوى الفكري والثقافي ومدينة الأزمة التي لا يبحث المنتج عند بنائها إلا عن الصنع المربح، مقاربة يعرب الإنسان في قاموسها كمفعول به في خدمة الاقتصاد .(13)
ويمكننا القول بأن تدبير و تنمية المجال المديني اليوم يبقى رهينا لمدى اعتمادنا على مقاربات تنموية شمولية ومتعددة الأبعاد تنطلق من خصوصية كل مجال حضري على حدة، حسب امكاناته وموارده ورساميله، وذلك بالاعتماد على الفاعلين الحضريين المحليين وعلى نتائج الأبحاث العلمية حول المدينة، واشراك السكان المحليين في صياغة هذه المقاربة التشاركية من أجل بناء أقطاب حضرية، قادرة على المنافسة وتجاوز مشكلات التوسع الحضري. بالإضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار البعد التاريخي للمدينة المغربية دون إغفال كذلك العلاقة الجدلية بين المدينة والبادية.
وهكذا فإنه بدون تهيئة الإنسان لا يمكن البتة الحديث عن تهيئة للمجال الحضري، سيما وأن العلاقة بين الاثنين (الإنسان والمجال) علاقة جدلية، لا يمكن الفصل بينهما بأي حال من الأحوال. وبالتالي فإن النهوض بالأوضاع الاجتماعية للإنسان الحضري من خلال تقليص نسبة الفقر والبطالة وتوفير مناصب الشغل ومحاربة الإقصاء والتهميش... والرفع من مستوى عيشه وتوسيع خياراته وتقوية قدراته ومؤهلاته. كلها إجراءات ستجعل منه أداة فاعلة في التنمية الحضرية، وبالتالي المساهمة الفعلية في تهيئة المجال الذي ينتمي إليه.(14).



















هوامش :
ـــــــــــــــ


(1) ما هي المدينة ، درس الانتروبولوجية الحضرية، بن محمد قسطاني أستاذ بكلية الآداب و العلوم الإنسانية مكناس
(2) المهدي بنميرالمدينة المغربية أي تدبير للتنمية الحضرية؟" سلسلة اللامركزية والجماعات المحلية (1) مطبعة دار وليلي للطباعة والنشر مراكش، الطبعة الأولى، 2005
(3) الحكامة الحضرية ،عادل جعفر (مقال)
(4) إنتاج المجال: من التعمير الاجباري إلى التعمير التوافقي " جودة المجال جودة الحياة عادل جعفر
(5) (المرجع السابق)
(6) طلبة تدبير الادارة المحلية
(7) إنتاج المجال: من التعمير الاجباري إلى التعمير التوافقي " جودة المجال جودة الحياة عادل جعفر
(8) بوزيان بوشنفاتي، في التحضر والثقافة الحضرية بالمغرب: دراسة في البناء الاجتماعي لمدن الصفيح، الطبعة الأولى 1988. منشورات الحوار الأكاديميوالجامعي.

(9) إنتاج المجال: من التعمير الاجباري إلى التعمير التوافقي " جودة المجال جودة الحياة عادل جعفر
(10) (المرجع السابق)
(11) عبد المالك ورد، الفاعل المحلي، وسياسة المدينة بالمغرب، الطبعة الأولى،2006،
(12) الميثاق الوطني لإعداد التراب الوطني،2002
(13) إنتاج المجال: من التعمير الاجباري إلى التعمير التوافقي " جودة المجال جودة الحياة عادل جعفر
(14)تقرير الخمسينية، المغرب الممكن، من أجل طموح مشترك، الطبعة الأولى، 2005.